08‏/02‏/2010

مصانع بير السلم تمحو تاريخ الوكالات الأثرية















تحقيق وتصوير/ علاء الدين ظاهر
21 سبتمبر 2009


تحقيق وسط عدد كبير من الكنوز الأثرية التي تزخر بها القاهرة وضواحيها،‮ ‬تبرز الوكالات كواحدة من أجمل المنشآت التاريخية التي حظيت بعناية الأمراء والسلاطين والأثرياء،‮ ‬خاصة في العصرين الفاطمي والعثماني‮.‬ وفي إطار مشروعات الترميم التي يجريها المجلس الأعلي للآثار لكنوز القاهرة الأثرية،‮ ‬عادت بعض الوكالات للحياة مرة أخري وأصبحت تحفة معمارية بالفعل،‮ ‬في حين لايزال الكثير منها مهملاً‮ ‬ومعرضاً‮ ‬لأخطار جسيمة تهدده بالدمار بعيداً‮ ‬عن أعين المسئولين عن الآثار‮.. ‬روزاليوسف‮ ‬تجولت بين الوكالات ورصدت بالقلم والكاميرا أوضاعها التي لا ترضي أحداً‮.‬

تاريخ الوكالات

الوكالة طراز معماري استخدم في أغلب إن لم يكن كل الدول العربية،‮ ‬وتعني الخان،‮ ‬وأقيمت بغرض التجارة وتخزين البضائع والسلع وعقد الصفقات التجارية،‮ ‬وبدأ استخدامها في العصر الفاطمي حتي نهاية العصر العثماني،‮ ‬وبجوار الأغراض التجارية،‮ ‬تضمنت الوكالات‮ ‬غرفاً‮ ‬وطوابق لسكن أصحاب الوكالة والتجار الوافدين للبيع والشراء،‮ ‬وعادة ما كانت تسمي الوكالة باسم صاحبها أو من أنشأها،‮ ‬وشهدت خلال عصر المماليك البرجيين تطورا كبيرا في طرز بنائها وعمارتها‮.‬

في شارع التمبكشية بالجمالية تقع وكالة‮ ‬بازرعة‮ ‬التي أقامها‮ ‬حسن كتخدا‮ ‬عام‮ ‬1769،‮ ‬وبداية من عام‮ ‬1796‮ ‬اشتهرت باسمها الحالي بعدما اشتراها تاجر يمني يدعي‮ ‬سالم بازرعة‮ ‬وشقيقه‮ ‬سعيد بازرعة‮ ‬ومنذ ذلك الحين عرفت بتجارة البن اليمني بعدما كانت مخصصة لتجارة الأخشاب‮.‬

هذه الوكالة وصلت إلي حالة مزرية في فترة من الفترات،‮ ‬حيث تهالك الكثير من عناصرها ووحداتها المعمارية،‮ ‬كما أصابت الشروخات والتصدعات جدرانها،‮ ‬ولم تسلم أسقفها من تهالك وسقوط أجزاء كثيرة منها،‮ ‬ناهيك عن سوء حال أخشاب الوكالة من أبواب وشبابيك ومشربيات تمثل روعة وجمال فن الأرابيسك وتآكل بلاطها وأرضيتها‮.‬

وفي عام‮ ‬1996‮ ‬تنبه القائمون علي الآثار لهذه القيمة وإمكانية فقدانها وضياعها من بين أيدينا وأعدوا مشروعاً‮ ‬لترميم الوكالة وإعادتها للحياة مرة أخري استغرق حوالي‮ ‬5‮ ‬سنوات لتفتتح في عام‮ ‬2001‮ ‬وتصبح مثل وكالة الغوري،‮ ‬حيث تشهد العديد من الأحداث والفعاليات الثقافية والفنية‮.‬

نفيسة البيضا

في شهر يونيو الماضي شهدت وكالة‮ ‬نفيسة البيضا‮ ‬التي تقع علي مقربة من باب زويلة حريقا هائلا نتج عن ماس كهربائي بأحد محال الشموع التي تنتشر بالوكالة،‮ ‬وكاد يقضي علي ذلك الكنز المعماري الثمين لولا العناية الإلهية التي أنقذته من الدمار‮.‬

الوكالة أنشأتها الجارية الشركسية‮ ‬نفيسة البيضا‮ ‬التي تزوجت من‮ ‬علي بك الكبير‮ ‬وورثت عنه ثروة ضخمة تضمنت تجارة وبيوتاً‮ ‬وقصوراً‮ ‬وجيشا مكوناً‮ ‬من‮ ‬400‮ ‬مملوك بجانب أسطول ضخم من السفن،‮ ‬وذلك عام‮ ‬1796م‮- ‬1211هـ‮.‬

تنتشر داخل الوكالة محلات وورش صناعة الشموع التي تستخدم مواد كيماوية تهددها بالدمار والحريق مرة أخري،‮ ‬ناهيك عن وجود مقهي يقع في نهاية الممر داخل الوكالة الذي يمتلئ بالزبالة وبقايا صناعة الشموع،‮ ‬كما أن حالة تلك المحلات متهالكة وجدرانها عفي عليها الزمن،‮ ‬وبعضها مهجور منذ سنوات ومهدد بالانهيار في أي وقت،‮ ‬بخلاف حالة مدخل الوكالة المذرية‮.‬

الوكالة أجري لها مشروع ترميم ضمن مجموعة‮ ‬نفيسة البيضا‮ ‬كلها التي تحتوي أيضا علي سبيل وكتاب،‮ ‬وافتتح عام‮ ‬2005‮ ‬بالتعاون بين المجلس الأعلي للآثار والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية،‮ ‬خاصة واجهتها التي تعد من أجمل الأمثلة التي تجسد فن الأرابيسك،‮ ‬وكل هذا مهدد بالضياع والدمار في أي وقت إذا ما شب حريق قد يمتد للوكالة كلها وواجتها بسبب انتشار براميل المواد الكيماوية في ممراتها‮.‬

أودة باشا

إذا كانت وكالة‮ ‬نفيسة البيضا‮ ‬مهددة بالضياع،‮ ‬فإنها علي الأقل حظيت ببعض الترميم والاهتمام وإن كان قليلا لم تنله وكالة‮ ‬أودة باشا‮ ‬التي تقع مقابلها في شارع التمبكشية التي وصل بها الحال إلي وضع لا يمكن السكوت عليه أبداً‮ ‬وإلا فالندم لا يجدي‮ ‬بعد فوات الأوان‮.‬

التعديات الموجودة بالشارع كثيرة وتحتاج إلي تدخل فوري،‮ ‬خاصة أن عدداً‮ ‬منها امتد إلي الوكالة نفسها،‮ ‬حيث يجلس بعض الباعة الجائلين أمامها،‮ ‬ناهيك عن ضيق الشارع وسوء حالته التي لا تتناسب مع المكان‮.‬

كل هذا قد يهون أمام بشاعة المشهد داخل الوكالة،‮ ‬فالوكالة تمتلئ بمحلات وورش تصنيع النحاس والألومنيوم،‮ ‬وتعرضت لنشوب حريق كبير بها بسبب تلك الورش التي تقبع فيها منذ زمن وتستخدم سيارات تدخل وتخرج لنقل البضائع والمواد الخام التي تهددها بالاحتراق مرة أخري‮.‬

ونتيجة لنقص وعي أصحاب الورش بكيفية التعامل مع هذا المكان التاريخي،‮ ‬ساءت حالته جداً‮ ‬حتي بات من الداخل وكأنه خرابة،‮ ‬أبنية وجدران متهالكة علي حافة الانهيار،‮ ‬أسلاك الكهرباء التي تهالكت بدورها بعد تهالك الجدران تنذر بكارثة‮.‬

عدد من الأهالي لا يعرفون قيمة المكان أو المبني،‮ ‬ويعلمون فقط أنه ومنذ فترة تم عمل دعامات خشبية،‮ ‬ومن الصلب لمبني الوكالة وجدرانها من الخارج نظراً‮ ‬لسوء حالتها وحمايتها كحل مؤقت من الانهيار علي الناس بالداخل والخارج مع وجود مقاه ومحال ملتصقة بجدران الوكالة ساهمت في سوء حال الشارع والمنطقة المجاورة‮.‬

خسارة قايتباي

في عام‮ ‬1481م‮ -‬885هـ بني الملك‮ ‬الأشرف أبوالنصر قايتباي‮ ‬وكالة بجوار باب النصر،‮ ‬وأضفي علي طرازها المعماري الكثير من الزخارف الإسلامية والمعمارية التي اشتهرت بها،‮ ‬إلا أن هذه الزخارف تلاشت وكادت تمحي مع الزمن وعدم اعتناء أحد بالمحافظة عليها‮.‬

الوكالة التي تقع بشارع باب النصر مهجورة منذ سنوات عديدة حتي تفككت أحجارها وتهدمت بعض الجدران فيها،‮ ‬ناهيك عن سوء حالتها المعمارية وفقدان أجزاء كثيرة من شبابيكها ومشربياتها التي يتمثل فيها فن الأرابيسك‮.‬

عدد من المحال الموجودة بالوكالة تستخدم كورش وبها أسطوانات‮ ‬غاز تهددها بالدمار والانهيار في حال انفجارها،‮ ‬هذا‮ ‬غير تعامل أصحاب وملاك الورش مع الوكالة بشكل أضرها كثيرا وأفقدها جمالها المعماري‮.‬

أما وكالة‮ ‬رضوان‮ ‬الموجودة في منطقة الخيامية بجوار باب زويلة،‮ ‬تمتلئ بمحلات ومغالق تجارة الأخشاب وهي ليست أحسن حالاً‮ ‬من سابقتها،‮ ‬كادت تتحول إلي مقلب قمامة حالتها مزرية جداً‮ ‬وتهدمت أجزاء كثيرة منها،‮ ‬ولنا أن تتخيل‮ -‬لا قدر الله‮- ‬إذا شب حريق في أحد محال الأخشاب،‮ ‬ستكون كارثة حقيقية تلتهم الوكالة بكل ما فيها‮.‬

وهناك أيضاً‮ ‬وكالة‮ ‬عباس أغا‮ ‬التي تقع بالقرب من‮ ‬أودة باشا‮ ‬في نفس الشارع،‮ ‬وإن كان حظها أسوأ منها ومثيلاتها،‮ ‬حيث لم يتبق منها فقط إلا البوابة الحجرية وباب خشبي،‮ ‬ولم يعد للوكالة نفسها وجود،‮ ‬ومكانها يوجد مبني ربما يكون مدرسة‮.‬

وكالة‮ ‬جمال الدين الذهبي‮ ‬تقع في شارع المقاصيص بمنطقة الصناعة في شارع المعز لدين الله،‮ ‬وهي أصغر في المساحة من مثيلاتها،‮ ‬وإن كان تم ترميمها والاعتناء بها،‮ ‬لكنه لم يتم استغلالها حتي الآن،‮ ‬كما أن أبوابها أحيانا تترك مفتوحة هكذا دون وجود حراسة تحول دون العبث بها‮.‬

مسئولية الآثار

كل هذا العبث والإهمال الذي تتعرض له تلك الوكالات الأثرية،‮ ‬من المسئول عنه والمتسبب فيه؟ وجهنا هذا السؤال إلي‮ ‬محسن سيد‮ ‬رئيس الإدارة المركزية للآثار الإسلامية بالمجلس الأعلي للآثار،‮ ‬أشار إلي أن لجنة حفظ الآثار العربية عام‮ ‬1951‮ ‬عندما قامت بتفقد الآثار الإسلامية لتسجيلها،‮ ‬هناك بعض الأماكن سجلت واجهتها فقط،‮ ‬كأثر مثل وكالة‮ ‬نفيسة البيضا‮‬،‮ ‬أي أن الواجهة فقط هي الأثر الذي يتبعنا وليست لنا سلطة علي ما بداخلها‮.‬

وأوضح أن أزمة مثل هذه الأماكن المتسبب فيها وزارة الأوقاف حينما قامت بتأجير المحلات الموجودة في تلك الوكالات بعقود منذ سنوات دون الرجوع إلينا أو النظر إلي نوع‮ ‬النشاط وخطورته وتأثيره علي المكان وقال‮: ‬الأوقاف بتأجر من ورانا ومبتاخدش رأينا‮.‬ أضاف‮: ‬في وكالة رضوان أردنا أن نخرج أصحاب محلات الأخشاب،‮ ‬لكننا لم نستطع لأنهم لديهم عقود ايجار رسمية من وزارة الأوقاف ويتوارثونها منذ القدم،‮ ‬وهو ما لا نقدر علي فعله أيضاً‮ ‬بالنسبة لأصحاب محلات وورش نفيسة‮ ‬البيضا‮.‬

أما د.مختار الكسباني أستاذ الآثار الإسلامية ومستشار المجلس الأعلي للآثار،‮ ‬أشار إلي أننا إذا كان من حقنا أن نفخر بمشروع تطوير شارع المعز وما حدث فيه،‮ ‬فلا يجب أن يلهينا ذلك عن منشآت ومبان أثرية تقع في الشوارع والمنطقة المحيطة به‮.‬

وأوضح أن الحال التي وصلت إليها الوكالات مثل‮ ‬نفيسة البيضا‮ ‬ورضوان وغيرها،‮ ‬نتيجة تراكمات منذ سنوات بعيدة خاصة أنها مشغولة بأنشطة خطيرة جداً‮ ‬ولابد من ضرورة تعاون الجهات المعنية للوصول إلي حل‮.‬

وضرب مثالاً‮ ‬بوكالة‮ ‬نفيسة البيضا‮ ‬التي تحتوي علي محال وورش لصناعة الشموع بلا تأمين ضد الحرائق،‮ ‬وتعد بمثابة قنابل موقوتة تهددها في أي وقت،‮ ‬وعندما شب حريق فيها منذ عدة أشهر،‮ ‬لم يقدر المجلس الأعلي للآثار علي فعل شيء لطرد أصحاب تلك الورش‮.‬

ولفت إلي أن وكالة‮ ‬أودة باشا‮ ‬تعد أكبر وكالة في العالم الإسلامي‮ ‬ولو تم ترميمها بشكل جيد وأعيد استخدامها مرة أخري ستدر ملايين الجنيهات،‮ ‬كذلك وكالة قايتباي المجاورة لباب النصر‮.‬

وحذر من أن تلك الورش والمهن التي تنفذها تهدد كل هذه الكنوز والتراث الأثري وتمثل خطورة علي البيئة،‮ ‬ولأن المشكلة معقدة لأن أصحابها لديهم عقود ايجار من الأوقاف،‮ ‬فلابد من قرار رئيس الوزراء لإخلائها وترميمها وإعادتها لما كانت عليه من روعة وجمال أثري ومعماري‮.‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق