علاء الدين ظاهر
رصدت دراسة أثرية للدكتور حسين دقيل الباحث المتخصص فى الآثار اليونانية الرومانية كيف كانت مكانة الأم فى مصر القديمة حيث حظيت الأمومة في مصر القديمة بمكانة كبيرة، لدرجة أن المصري القديم اتخذ من معبوداته ربات للأمومة، كالمعبودة إيزيس التي سعت نحو حماية ابنها حورس بكل الطرق في مواجهة قاتل أبيه عمه الشرير ست، ولذا فهي كثيرًا ما تظهر وهي ترضع ابنها كناية عن حبها له.
ويشير الدكتور حسين دقيل إلى أن مكانة المرأة وصلت لدرجة إهدائها أعلى وسام عسكرى فى مصر القديمة وهى هدية الملك الشاب أحمس لأمه "إياح حتب" بعد أن انتصر على الهكسوس وطردهم من الأراضي المصرية مكملًا بذلك دور والده "سقنن رع" وأخيه "كامس"؛ لم ينس دور أمه في هذا النصر فقام بإهدائها وسام الذبابة الذهبية تقديرًا لشجاعتها وصلابتها واعترافًا بدورها الكبير في هذا النصر.
وكان هذا الوسام هو أعلى وأرقى وسام عسكري في الدولة حينذاك؛ حيث كان يمنح لمن قام بأداء دور بطولي في المعارك العسكرية، وكانت إياح حتب بذلك أول امرأة تتقلد هذا الوسام هذا إلى جانب إهدائها أيضا المشغولات الذهبية والأساور الفريدة ولم يكتف أحمس بذلك فقط بل دعا إلى تبجيل والدته، وتقديسها في حياتها وبعد مماتها.
و يلقى خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمى بجنوب سيناء بوزارة السياحة والآثار الضوء على هذه الدراسة موضحًا أن المصرى القديم أوصى بالأم خيرًا، فها هو الحكيم "بتاح حتب" منذ 4500 عام؛ يحث ابنه على طاعة أمه، ويذكره بما قدمته له منذ أن كان طفلًا، ويحذره من تفضيل زوجته عليها.
فيقول: "أوصيك بأمك التي حملتك؛ هي أرسلتك إلى المدرسة كي تتعلم الكتب، وهي تُشغل نفسها بك طول النهار، وهي التي تعطيك الطعام والشراب من البيت، والآن وقد كبرت وتزوجت وأصبحت سيد بيتك؛ التفت إلى تلك التي ولدتك وزودتك بكل شيء؛ هي أمك؛ لا تدع لها فرصة للغضب عليك، لا تدعها ترفع يدها غضبًا بسببك، لأن الرب سيستمع إليها بلا شك".
أمّا الحكيم "آني" فمنذ ما يقرب من 3500 عام؛ يوصي ابنه أيضا بأمه، مبينًا له بعض ما فعلته من أجله مذ كان جنينًا في أحشائها، فيقول: "أعد لأمك كل ما فعلته من أجلك، أعطها المزيد من الخبز، واحملها كما حملتك، لقد كان عبؤها ثقيلا حين حملتك، وحين وُلدت بعد تمام شهورك حملتك على عنقها، وظل ثديها في فمك ثلاث سنوات.
ولم تكن تشمئز من قاذوراتك، وأرسلتك إلى المدرسة كي تتعلم الكتابة؛ وفي كل يوم كانت تنتظرك بالخبز والجعة في بيتها، فإذا شببت وتزوجت واستقررت في دارك، ضع نصب عينيك كيف ولدتك أمك؛ وكيف عملت على أن تربيك بكل سبيل، ولا تدعها تلومك وترفع كفيها ضارعة إلى الرب؛ فيستجيب لدعائها".
وفي تعاليم الحكيم "عنخ شاشنقى" التي سجلها لنا منذ ما يقرب من 2500 عام، ما يبين أن قيمة الأم كانت أعلى درجة من قيمة الأب، فها هو عنخ شاشنقي يقول: "لا تُضحك ولدك وتُبكيه على أمه، تريد أن يعرف أهمية أبيه، فما وُلد فحل من فحل" أي من غير أم.
ويشير الدكتور ريحان إلى متون الأهرام حيث نرى والدًا من عصر الدولة القديمة يُحث ابنه على طاعة والدته، موضحًا له أن طاعتها ستجعله ينال المناصب العليا، فيقول: "طُوبى لمن كان جادًا إزاء أمه، فهو جدير بأن يصبح جميع الناس له تبعًا". ولم يوص المصري القديم بالأم في حياتها فقط، بل دعا أيضا إلى برها هى ووالده حتى بعد مماتهما، من خلال زيارة قبرهما، فها هو الحكيم "آني" يقول: "قدم الماء لأبيك وأمك اللذين انتقلا إلى قبرهما في الصحراء، وإياك أن تغفل عن هذا الواجب، حتى يعمل لك ابنك بالمثل".
وككل عصر لم يخلُ ذاك العصر من عقوق الوالدين، فها هي امرأة مصرية من القرن الثاني عشر قبل الميلاد توضح لنا، ولو إجمالًا ما حدث معها من عقوق أبنائها لها، وكيف كانت ردة فعلها تجاههم، إذ تقول: "ها أنا ذا قد طعنت في السن وهم لا يعتنون بي، فمن بادر منهم ووضع يده في يدي فسأعطيه من أملاكي، ومن لا يفعل ذلك فلن أعطيه شيئًا".
ولفت الدكتور ريحان من خلال الدراسة إلى أن النصوص لم تكن هي الوحيدة التي تدل على اهتمام المصري القديم بالأم، بل هناك أيضا العديد من النقوش التي تزين جدران المقابر والمعابد والتي نرى فيها مناظر لملوك بجوار أمهاتهم في صورة تعبر عن مدى تقدير هؤلاء الأبناء لأمهاتهم.
كما أن هناك أيضا العديد من المنحوتات التي مثّل فيها الفنان المصري القديم الأمهات وهن يرضعن أبناءهن الملوك، مثل التمثال الفريد المصنوع من الألباستر والمعروض بمتحف بروكلين للفنون بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يمثل الملكة "عنخ إن إس مري رع"، وهي تُجلس ابنها الملك "بيبي الثاني" على حجرها مما يدل على مكانتها عند ابنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق