علاء الدين ظاهر
تعد هدير الشافعي الأثرية في وزارة السياحة والأثار من الباحثات المتميزات في الأثار خاصة الأثار الإسلامية،وهو ما أدي بها لإعداد دراسة مهمة أيضا عن دور الفرنسيين في توثيق أحياء القاهرة والآثار الإسلامية بها،وكشفت فيها أسرارا تاريخية مثيرة عن أحياء القاهرة المختلفة ومنها الأزبكية،والتي نتناول في هذا التقرير أسرارا مثيرة عنها.
# المقس وقراقوش وصلاح الدين
كانت من أعظم البرك مساحة في العصرين المملوكي والعثماني وأكثرها ارتباطًا بالتنزه ومظاهره، ويمثل موضعها الآن حديقة الأزبكية وما حولها،وقد ذكرها المقريزي في الخطط وذكر أنها كانت "تعرف أيامه بركة بطن البقرة وأنها تقع فيما بين أرض الطبالة وأراضي اللوق ويصل إليها ماء النيل من الخور فيعبر خليج الذكر إليها، ويصف المقريزي في الخطط عن منظر البيوت والبركة بقوله "فكم دوت تلك الديار من حسن مستحسن وأني لأذكرها وما مررت بها قط إلا وتبين لي من كل دار هناك أطار النعم، أما روائع تقالي المطبخ أو عبير بخور العود والند أو نفحات الخمر أو صوت غناء أو رق هاون ونحو ذلك مما بين ترف سكان تلك الديار ورفاهة عيشهم ونضارة نعمهم.
وكان موضع البركة في العصر الفاطمي جزءًا من بستان كبير يسمي بستان المقس،والمقس قرية قديمة قبل الفتح الإسلامي وكان اسمها الروماني Tandurios وكانت تطل على النيل مباشرة قبل أن ينحسر، وكانت ميناءًا للقاهرة في العصر الفاطمي، وقد بنا الخليفة المعز لدين الله هناك دار صناعة السفن، وأنشأ بها الخليفة الحاكم بأمر الله جامعًا عُرف في العصر المملوكي باسم جامع المقس، وعرف بعد ذلك بجامع أولاد عنان (جامع الفتح بميدان رمسيس حاليًا)، ويرجع تسمية القرية بالمقس نسبة للمكس وهي الضريبة التي كانت تحصل هناك حتى كانت ميناء القاهرة، عُرفت أيضًا باسم المقسم لأن العرب قسموا الغنائم التي حصلوا عليها أثناء الفتح هناك.
وعند جامع المقس كان ينتهي السور الذي بناه قراقوش وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي ليحيط بالقاهرة وظواهرها كما بنى قراقوش هناك برجًا بجوار الجناح محل المنظرة الفاطمية، وكان الجامع يشرف على النيل مباشرة في ذلك الوقت، وقد جدد الجامع قراقوش، وانحصر النيل عند المكس حوالي سنة 700هـ، وذكر المقريزي أنه أدرك المقس في أيامه خطة في غاية العمارة وبها عدة أسواق ويسكنها أمم من الأكراد والأخبار والكتاب وغيرهم، وكانت المقس تشغل المنطقة التي تحد من الغرب بشارع عماد الدين ومن الجنوب بشارع قنطرة الدكة وشارع القبلية ومن الشرق بشارع الكنيسة المرقسية ومن الشمال بشارع بين الحارات، وحتى ميدان رمسيس.
ويقع بين المقس وجنان الزهري، وكان يشرف على النيل من غربيه (قبل أن ينحصر) ويشرف على الخليج الكبير من شرقيه،وكانت البركة تواجه قصر اللؤلؤة ودار الدهب برج الخليج الغربي، وحل محل قصر اللؤلؤة الآن الدور والأبنية المجاورة لضريح الشعراني بشارع الخليج المصري،وفي أيام الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله (411 – 427هـ/ 1020- 1036م) أمر بعد سنة (410هـ/ 1019م) بإزالة أنشاب هذا البستان وأن يعمل بركة أمام منظرة اللؤلؤة، وفي أيام الشدة الكبرى التي حدثت سنة 457هـ حتى 464هـ،في خلافة المستنصر بالله هجرت البركة وبنى موضعها عدة أماكن عرفت بحارة اللصوص إن ذاك.
لكنها عمرت مرة أخرى في أيام الخليفة الأمر بأحكام الله (495 – 524هـ/1101 – 1130م) في وزارة المأمون بن فاتك (515 – 519هـ/ 1121- 1125م) حيث أزيلت تلك الأبنية وعمق هذه الأرض وأجرى إليها الماء من خليج الذكر فصارت بركة عرفت ببطن البقرة،واستمرت البركة على حالها حتى تعرضت للمحن التي حدثت أيام السلطان الملك العادل كتبغا 697هـ/ 1297م حيث حدث تقصير كبير للنيل فحدثت مجاعة، وصارت البركة كيمان يعرف بكوم الحاكي وصار ما حولها خرابًا من أرض الطبالة حتى باب اللوق،ويذكر المقريزي أيضًا أن البركة كانت أيامه خرابًا "إلا موضع صغير منها كان الناس يجتمعون هناك للنزهة.
# تكملة عمارة البركة على يد أزبك
هو الذي حفر البركة التي هي موجودة الآن، وأجرى إليها الماء من الخليج الناصري، وحدد عمارة قنطرة خليج الذكر التي كانت هناك ثم بنى علي هذه البركة رصيفًا محاطًا بها وتعب في ذلك تعبًا عظيمًا حتى تمر له بما أراد من ذلك فكان في قوة الحر يدور خلف المحاريث في الكيمان وغيرها وأصرف على ذلك مالاً له صورة ما يزيد على مائتي ألف دينار،وعن عمارة الأزبكية ذكر ابن أياس "ثم شرعت الناس تبني على هذه البركة القصور الفاخرة والأماكن الجليلة، ولازالت تتزايد في العمارة إلى سنة إحدى وتسعمائة، وقد رغب الكثير من الناس في سكنى الأزبكية وصارت مدينة على انفرادها، ثم أنشأ بها الجامع الكبير وجعل به خطبة وأنشأ به المئذنة العظيمة وجاء غاية في الحسن في الزخرفة والبناء، ثم أنشأ حول هذا الجامع الربوع والحمامات والقياسر والطواحين والأفران وغير ذلك من المنافع وسكن تلك القصور وتمتع بها مدة طويلة حتى مات وبقي له تذكار.
ولما كملت عمارة الأزبكية ودخل الماء إلى بركتها أنعم السلطان قايتباي على الأتابكي أزبك بأرضها وكتب له بذلك مربعة شريفة، وكانت أرض الأزبكية قبل سكن أزبك بها أرض محتكرة موقوفة على خزائن السلاح من العصر الأيوبي،وإذا ذكرت الأزبكية لابد أن يذكر محمد بك الألفي،فإذا كان هناك حول بركة الأزبكية عشرين قصراً فخمًا للأمراء وحولها قصور البكوات المماليك وتسبح المراكب التي تحمل الفوانيس المضيئة فوق أشرعتها على البركة فإن عام 1798 يحمل معنى جديداً للأزبكية. ففي يوم 27 فبراير 1798 انتهى إنشاء أفخم قصور الأزبكية الذي أنشاه محمد بك الألفي كبير المماليك. وجعله تحفة معمارية رائعة على الجهة الغربية من بركة الأزبكية.
# بركة الأزبكية في العصر العثماني
بعد وفاة أزبك مؤسس الأزبكية قلب الاهتمام بعمارتها بل أن منشآتها تعرضت للنهب والتخريب أيام السلطان الغوري( )، وتعرضت للدمار أكثر أثناء الغزو العثماني على مصر،وبدأ الاهتمام يعود بشكل واضح في القرن 11هـ/17م فقد بدأ بعض الأسر الثرية والشيوخ والتجار في البناء حول البركة وتجمعهم كبار الأمراء،وكان أكبر عمران لها في القرن 12هـ/18م إذ حفت حولها بيوت الأمراء من أصحاب الوظائف الكبرى في الدولة، وكذلك كبار التجار.
وقد تم الاهتمام في العصر العثماني ببعض أحياء القاهرة مثل الأزبكية وبركة الفيل والجانب الغربي للخليج وازدهرت بولاق بشكل واضح في العصر العثماني،واحتل الفرنسيين القصر عند وصولهم القاهرة وجعلوه مقراً لقيادة الحملة الفرنسية وحرصوا في موسوعة وصف مصر على رسمه ورسم حديقته في أكثر من لوحة، وهو القصر الذي تسلق أسواره الشاب السوري سليمان الحلبي ليقتل كليبر خليفة بونابرت،وتحول القصر إلى مدرسة الألسن ثم اشترته زينب هانم ابنة محمد علي وشيدت مكانه لوكاندة للإنجليز مقر للضيافة ثم إلى فندق كبير هو فندق شبرد الذي احترق عن كامله في حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952،وكان القصر يشغل مساحة هائلة من شارع نجيب الريحاني إلى شارع الألفي طولاً، ويمتد إلى شارع عماد الدين.
وتعرضت القاهرة الفاطمية إلى تحولات عميقة، فهدمت العمائر القديمة واستبدلت بأخرى جديدة، فقد تنافس السلاطين في المباهاة بالثراء فكان كل منهم يبغي أن يتميز عن الآخرين، أو أن يخلق ريعًا جديداً لنفسه، أو أن يكفر عن ذنب ارتكبه فارتفعت في المدينة قصور عديدة ومساجد ومدارس وأسبله، وتحولت القاهرة من مدينة ملكية إلى حي تجاري ومركزاً للنقل التجاري العالمي، وعلى طول شارع بين القصرين قامت الأسواق الرئيسية وامتدت على الشوارع المجاورة، وتسابق الناس في البناء في تلك المنطقة حتى عمرت وندرت أرض البناء، أخذ الحي الجنوبي الممتد إلى الفسطاط في العمران.
فقد كان أهل الفسطاط يستخدمون باستمرار الشارع الأعظم الذي كان يربط القاهرة بالفسطاط، وأدت الحركة الدائمة بهذا الشارع إلى أن أقام التجار حوانيتهم على طول الطريق، الذي كانت تضيئه ليلا أنوار المطاعم والمتاجر وعاد العمران إلى منطقة جبل يشكر بعد أن سكنها الخلفاء العباسيون الذي كان بيبرس قد دعاهم إلى سكن القاهرة وذلك بعد سقوط بغداد على أيدي المغول، واتسم هذا الحي بسمة ارستقراطية حيث شيد به النبلاء قصورهم ومما شجع على سكن تلك المنطقة المجاورة لجامع أحمد بن طولون وجذب إليها التجار، أن رجلاً صالحًا قد رأى النبي (ص) في المنام بارك تلك المنطقة.
ويتضح لنا أنه لم يعد المجتمع القاهري مقصوراً على رجال البلاط بين جدران القصور الفاطمية الشامخة، إنما اتسع إلى كل جهة ماعدا الشرق. فقد تدفق إلى ما وراء الأبواب الشمالية وكون الضاحية الجديدة التي تسمى (الحسينية)، حيث أقيمت عدة مساجد وأضرحة بولاق، وأول مسرح في مصر بُني في الأزبكية، فقد عرفت مصر المسرح الحديث في عهد نابليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر فقد كان من بين رجال البعثة العلمية التي جاءت معه (ريجيل) و "فيلوت" وهما من كبار الموسيقيين وبناء على طلب نابليون وصلت لمصر فرقة تمثيل بدأت ممارسة نشاطها في منزل كريم بك ببولاق.
وقد ذكر الجبرتي في عجائب الآثار أنهم شيدوا كازينو تيفولي يجتمع فيه النساء والرجال للهو وأنشأوا مسرحًا سماه الجبرتي (كمرى) أي كوميدي.،وسُمي المسرح في عهد كليبر بمسرح الجمهورية وقد حفظ لنا التاريخ إسمان لمسرحيتان مثلتا على هذا المسرح وهما (الطحانيين) و(رايس وفلكلور) أو بونابرت في القاهرة، وبُنى هذا المسرح في الأزبكية أيام الحملة الفرنسية كما ذكرنا وقد هدم أثناء ثورة القاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق