تحقيق وتصوير/ علاء الدين ظاهر
21 سبتمبر 2009
تحقيق وسط عدد كبير من الكنوز الأثرية التي تزخر بها القاهرة وضواحيها، تبرز الوكالات كواحدة من أجمل المنشآت التاريخية التي حظيت بعناية الأمراء والسلاطين والأثرياء، خاصة في العصرين الفاطمي والعثماني. وفي إطار مشروعات الترميم التي يجريها المجلس الأعلي للآثار لكنوز القاهرة الأثرية، عادت بعض الوكالات للحياة مرة أخري وأصبحت تحفة معمارية بالفعل، في حين لايزال الكثير منها مهملاً ومعرضاً لأخطار جسيمة تهدده بالدمار بعيداً عن أعين المسئولين عن الآثار.. روزاليوسف تجولت بين الوكالات ورصدت بالقلم والكاميرا أوضاعها التي لا ترضي أحداً.
تاريخ الوكالات
الوكالة طراز معماري استخدم في أغلب إن لم يكن كل الدول العربية، وتعني الخان، وأقيمت بغرض التجارة وتخزين البضائع والسلع وعقد الصفقات التجارية، وبدأ استخدامها في العصر الفاطمي حتي نهاية العصر العثماني، وبجوار الأغراض التجارية، تضمنت الوكالات غرفاً وطوابق لسكن أصحاب الوكالة والتجار الوافدين للبيع والشراء، وعادة ما كانت تسمي الوكالة باسم صاحبها أو من أنشأها، وشهدت خلال عصر المماليك البرجيين تطورا كبيرا في طرز بنائها وعمارتها.
في شارع التمبكشية بالجمالية تقع وكالة بازرعة التي أقامها حسن كتخدا عام 1769، وبداية من عام 1796 اشتهرت باسمها الحالي بعدما اشتراها تاجر يمني يدعي سالم بازرعة وشقيقه سعيد بازرعة ومنذ ذلك الحين عرفت بتجارة البن اليمني بعدما كانت مخصصة لتجارة الأخشاب.
هذه الوكالة وصلت إلي حالة مزرية في فترة من الفترات، حيث تهالك الكثير من عناصرها ووحداتها المعمارية، كما أصابت الشروخات والتصدعات جدرانها، ولم تسلم أسقفها من تهالك وسقوط أجزاء كثيرة منها، ناهيك عن سوء حال أخشاب الوكالة من أبواب وشبابيك ومشربيات تمثل روعة وجمال فن الأرابيسك وتآكل بلاطها وأرضيتها.
وفي عام 1996 تنبه القائمون علي الآثار لهذه القيمة وإمكانية فقدانها وضياعها من بين أيدينا وأعدوا مشروعاً لترميم الوكالة وإعادتها للحياة مرة أخري استغرق حوالي 5 سنوات لتفتتح في عام 2001 وتصبح مثل وكالة الغوري، حيث تشهد العديد من الأحداث والفعاليات الثقافية والفنية.
نفيسة البيضا
في شهر يونيو الماضي شهدت وكالة نفيسة البيضا التي تقع علي مقربة من باب زويلة حريقا هائلا نتج عن ماس كهربائي بأحد محال الشموع التي تنتشر بالوكالة، وكاد يقضي علي ذلك الكنز المعماري الثمين لولا العناية الإلهية التي أنقذته من الدمار.
الوكالة أنشأتها الجارية الشركسية نفيسة البيضا التي تزوجت من علي بك الكبير وورثت عنه ثروة ضخمة تضمنت تجارة وبيوتاً وقصوراً وجيشا مكوناً من 400 مملوك بجانب أسطول ضخم من السفن، وذلك عام 1796م- 1211هـ.
تنتشر داخل الوكالة محلات وورش صناعة الشموع التي تستخدم مواد كيماوية تهددها بالدمار والحريق مرة أخري، ناهيك عن وجود مقهي يقع في نهاية الممر داخل الوكالة الذي يمتلئ بالزبالة وبقايا صناعة الشموع، كما أن حالة تلك المحلات متهالكة وجدرانها عفي عليها الزمن، وبعضها مهجور منذ سنوات ومهدد بالانهيار في أي وقت، بخلاف حالة مدخل الوكالة المذرية.
الوكالة أجري لها مشروع ترميم ضمن مجموعة نفيسة البيضا كلها التي تحتوي أيضا علي سبيل وكتاب، وافتتح عام 2005 بالتعاون بين المجلس الأعلي للآثار والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، خاصة واجهتها التي تعد من أجمل الأمثلة التي تجسد فن الأرابيسك، وكل هذا مهدد بالضياع والدمار في أي وقت إذا ما شب حريق قد يمتد للوكالة كلها وواجتها بسبب انتشار براميل المواد الكيماوية في ممراتها.
أودة باشا
إذا كانت وكالة نفيسة البيضا مهددة بالضياع، فإنها علي الأقل حظيت ببعض الترميم والاهتمام وإن كان قليلا لم تنله وكالة أودة باشا التي تقع مقابلها في شارع التمبكشية التي وصل بها الحال إلي وضع لا يمكن السكوت عليه أبداً وإلا فالندم لا يجدي بعد فوات الأوان.
التعديات الموجودة بالشارع كثيرة وتحتاج إلي تدخل فوري، خاصة أن عدداً منها امتد إلي الوكالة نفسها، حيث يجلس بعض الباعة الجائلين أمامها، ناهيك عن ضيق الشارع وسوء حالته التي لا تتناسب مع المكان.
كل هذا قد يهون أمام بشاعة المشهد داخل الوكالة، فالوكالة تمتلئ بمحلات وورش تصنيع النحاس والألومنيوم، وتعرضت لنشوب حريق كبير بها بسبب تلك الورش التي تقبع فيها منذ زمن وتستخدم سيارات تدخل وتخرج لنقل البضائع والمواد الخام التي تهددها بالاحتراق مرة أخري.
ونتيجة لنقص وعي أصحاب الورش بكيفية التعامل مع هذا المكان التاريخي، ساءت حالته جداً حتي بات من الداخل وكأنه خرابة، أبنية وجدران متهالكة علي حافة الانهيار، أسلاك الكهرباء التي تهالكت بدورها بعد تهالك الجدران تنذر بكارثة.
عدد من الأهالي لا يعرفون قيمة المكان أو المبني، ويعلمون فقط أنه ومنذ فترة تم عمل دعامات خشبية، ومن الصلب لمبني الوكالة وجدرانها من الخارج نظراً لسوء حالتها وحمايتها كحل مؤقت من الانهيار علي الناس بالداخل والخارج مع وجود مقاه ومحال ملتصقة بجدران الوكالة ساهمت في سوء حال الشارع والمنطقة المجاورة.
خسارة قايتباي
في عام 1481م -885هـ بني الملك الأشرف أبوالنصر قايتباي وكالة بجوار باب النصر، وأضفي علي طرازها المعماري الكثير من الزخارف الإسلامية والمعمارية التي اشتهرت بها، إلا أن هذه الزخارف تلاشت وكادت تمحي مع الزمن وعدم اعتناء أحد بالمحافظة عليها.
الوكالة التي تقع بشارع باب النصر مهجورة منذ سنوات عديدة حتي تفككت أحجارها وتهدمت بعض الجدران فيها، ناهيك عن سوء حالتها المعمارية وفقدان أجزاء كثيرة من شبابيكها ومشربياتها التي يتمثل فيها فن الأرابيسك.
عدد من المحال الموجودة بالوكالة تستخدم كورش وبها أسطوانات غاز تهددها بالدمار والانهيار في حال انفجارها، هذا غير تعامل أصحاب وملاك الورش مع الوكالة بشكل أضرها كثيرا وأفقدها جمالها المعماري.
أما وكالة رضوان الموجودة في منطقة الخيامية بجوار باب زويلة، تمتلئ بمحلات ومغالق تجارة الأخشاب وهي ليست أحسن حالاً من سابقتها، كادت تتحول إلي مقلب قمامة حالتها مزرية جداً وتهدمت أجزاء كثيرة منها، ولنا أن تتخيل -لا قدر الله- إذا شب حريق في أحد محال الأخشاب، ستكون كارثة حقيقية تلتهم الوكالة بكل ما فيها.
وهناك أيضاً وكالة عباس أغا التي تقع بالقرب من أودة باشا في نفس الشارع، وإن كان حظها أسوأ منها ومثيلاتها، حيث لم يتبق منها فقط إلا البوابة الحجرية وباب خشبي، ولم يعد للوكالة نفسها وجود، ومكانها يوجد مبني ربما يكون مدرسة.
وكالة جمال الدين الذهبي تقع في شارع المقاصيص بمنطقة الصناعة في شارع المعز لدين الله، وهي أصغر في المساحة من مثيلاتها، وإن كان تم ترميمها والاعتناء بها، لكنه لم يتم استغلالها حتي الآن، كما أن أبوابها أحيانا تترك مفتوحة هكذا دون وجود حراسة تحول دون العبث بها.
مسئولية الآثار
كل هذا العبث والإهمال الذي تتعرض له تلك الوكالات الأثرية، من المسئول عنه والمتسبب فيه؟ وجهنا هذا السؤال إلي محسن سيد رئيس الإدارة المركزية للآثار الإسلامية بالمجلس الأعلي للآثار، أشار إلي أن لجنة حفظ الآثار العربية عام 1951 عندما قامت بتفقد الآثار الإسلامية لتسجيلها، هناك بعض الأماكن سجلت واجهتها فقط، كأثر مثل وكالة نفيسة البيضا، أي أن الواجهة فقط هي الأثر الذي يتبعنا وليست لنا سلطة علي ما بداخلها.
وأوضح أن أزمة مثل هذه الأماكن المتسبب فيها وزارة الأوقاف حينما قامت بتأجير المحلات الموجودة في تلك الوكالات بعقود منذ سنوات دون الرجوع إلينا أو النظر إلي نوع النشاط وخطورته وتأثيره علي المكان وقال: الأوقاف بتأجر من ورانا ومبتاخدش رأينا. أضاف: في وكالة رضوان أردنا أن نخرج أصحاب محلات الأخشاب، لكننا لم نستطع لأنهم لديهم عقود ايجار رسمية من وزارة الأوقاف ويتوارثونها منذ القدم، وهو ما لا نقدر علي فعله أيضاً بالنسبة لأصحاب محلات وورش نفيسة البيضا.
أما د.مختار الكسباني أستاذ الآثار الإسلامية ومستشار المجلس الأعلي للآثار، أشار إلي أننا إذا كان من حقنا أن نفخر بمشروع تطوير شارع المعز وما حدث فيه، فلا يجب أن يلهينا ذلك عن منشآت ومبان أثرية تقع في الشوارع والمنطقة المحيطة به.
وأوضح أن الحال التي وصلت إليها الوكالات مثل نفيسة البيضا ورضوان وغيرها، نتيجة تراكمات منذ سنوات بعيدة خاصة أنها مشغولة بأنشطة خطيرة جداً ولابد من ضرورة تعاون الجهات المعنية للوصول إلي حل.
وضرب مثالاً بوكالة نفيسة البيضا التي تحتوي علي محال وورش لصناعة الشموع بلا تأمين ضد الحرائق، وتعد بمثابة قنابل موقوتة تهددها في أي وقت، وعندما شب حريق فيها منذ عدة أشهر، لم يقدر المجلس الأعلي للآثار علي فعل شيء لطرد أصحاب تلك الورش.
ولفت إلي أن وكالة أودة باشا تعد أكبر وكالة في العالم الإسلامي ولو تم ترميمها بشكل جيد وأعيد استخدامها مرة أخري ستدر ملايين الجنيهات، كذلك وكالة قايتباي المجاورة لباب النصر.
وحذر من أن تلك الورش والمهن التي تنفذها تهدد كل هذه الكنوز والتراث الأثري وتمثل خطورة علي البيئة، ولأن المشكلة معقدة لأن أصحابها لديهم عقود ايجار من الأوقاف، فلابد من قرار رئيس الوزراء لإخلائها وترميمها وإعادتها لما كانت عليه من روعة وجمال أثري ومعماري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق