تحقيق/ علاء الدين ظاهر
14 نوفمبر 2009
علي بعد ٣١ كيلو متراً شمال شرق مدينة دسوق بكفر الشيخ يقع "تل الفراعين" الأثري الذي كان قديما مدينة "بوتو" عاصمة مصر السياسية خلال عصر ما قبل الأسرات. التل تتعدي مساحته ٦٧١ فداناً، ورغم أنه يحتوي علي عدد من المواقع الأثرية المهمة، إلا أنه يعاني من عدة أزمات ومشاكل تجاوزت مجالها الأثري وامتد تأثيرها إلي الأهالي والسكان المحيطين به، خاصة مع قيام المجلس الأعلي للآثار ببناء سور يحيط بالتل وثورتهم ضده.
"روزاليوسف" ترصد في هذا التحقيق تلك المشاكل والأزمات والبحث عن حل لها مع المسئولين.
حكاية الجدار العازل
جاء قرار المجلس الأعلي للآثار إقامة سور يحيط بالتل كله وبدأ التنفيذ بالفعل من الجانب الغربي للتل بالقرب من الموقع الذي تعمل فيه بعثة الحفائر الألمانية منذ عدة سنوات كشفت خلالها عن عدة منازل وأبنية.
ورغم أن المجلس يهدف إلي حماية التل بإقامة مثل هذا السور، إلا أنه أدي إلي ثورة وغضب عدد كبير من الأهالي هناك بسبب أن ذلك السور سيتسبب في ضياع أراضيهم وتشريد الكثير منهم لدرجة أنهم هناك اصطلحوا علي أن يسموه "الجدار العازل"!.
"خليل السحماوي" أحد الأهالي تحدث إلي "روزاليوسف" وقال إن الآثار قامت باحضار حفار كبير ومقاول وبدأوا بالفعل في العمل وحفروا بعمق متر ونصف ووضعوا الأساسات الخرسانية من الجهة الغربية متجهين ناحية الشمال، ورغم أن طبيعة حدود التل ليست مستقيمة، قامت هيئة الآثار بالحفر في خط مستقيم مما ترتب عليه اقتطاع مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية المجاورة.
وأضاف: ولأن الأرض مثل العرض للفلاح، والأراضي الزراعية التي سيدمرها السور يعيش عليها ما يقرب من ٠٠٥ أسرة ، فإننا نناشد كل المسئولين الذين لهم صلة بالموضوع أن ينقذوا كل هؤلاء من التشرد والمصير المجهول، خاصة أننا أرسلنا خطابات ومكاتبات للجميع ولا حياة لمن تنادي، مشيرا إلي إن الأهالي لا يعترضون اطلاقا علي حماية الآثار، فمن واجبهم أن يشاركوا في تلك المهمة النبيلة، دون أن يكون ذلك علي حساب أرزاقهم وأقوات أطفالهم.
أما "علي خليل رفاعي" و"محمد حسين السحماوي" و"عبداللطيف رضوان" و"حلمي إبراهيم مبارك" و"محمد علي رفاعي" وغيرهم الكثير، أكدوا أن الأراضي التي يمتلكونها هي الميراث الذي سيتركونه لأولادهم، فكيف يكون الحال إذا جاء عليها ذلك السور الذي سيحيط بالتل؟ إنها كارثة بالفعل ولا نعرف ماذا نفعل؟
مصدر بالآثار عبر لـ"روزاليوسف" عن مخاوفه من أن يتسبب ذلك السور في أضرار للتل الأثري أكثر من حمايته.. البداية تمثلت في استخدام معدات ثقيلة في الحفر مثل الكراكات واللوادر لأنها في هذه الحالة قد تؤدي إلي تدمير ما قد يعترض مسار السور من آثار في باطن الأرض.
الموقع الذي تعمل فيه بعثة الآثار الألمانية كشفت فيه عن عدة منشآت ومنازل أثرية من المرجح أن يكون هناك امتداد لها تحت مسار السور علي أطراف التل الأثري، وبالتالي فقد تم تدميرها أثناء بناء السور أو علي أقل تقدير وضع عقبة كبيرة في سبيل الكشف عن ذلك الامتداد.
الوضع الحالي
لن يقوم المجلس الأعلي للآثار بإقامة مثل هذه السور إذا لم تكن لديه أسبابه القوية ودوافعه، خاصة أن تكلفته ستكون كبيرة ماديا، هذه الأسباب وغيرها يكشف عنها الوضع الحالي الذي عليه التل الآن ويجيب عن سؤال: هل المجلس مضطر بالفعل لإقامة هذا السور أم يمكن الاستغناء عنه في سبيل عدم خلق أزمات مع الناس؟
المساحة الشاسعة للتل وعدم وعي الناس هناك جعله معرضا بصفة مستمرة لتعديات وانتهاكات من قبل السكان وأصحاب الأراضي الزراعية المجاورين له، فقد أصبح مرتعاً لحيوانات ومواشي الفلاحين وممراً للناس يعبرون طريقهم من خلاله.
التعدي الأخطر يتمثل في قيام الفلاحين وملاك الأراضي الزراعية باستقطاع أجزاء من التل وضمها إلي أراضيهم من خلال نقل حدودها إلي داخل عمق وحرم التل، وعبر سنوات ضاعت أجزاء كثيرة منه دون رادع أو مساءلة من أحد.
ليس هذا فقط، فمحافظة كفر الشيخ تشتهر بزراعة محاصيل تحتاج في ريها إلي غمر كامل بالمياه لفترات طويلة مثل الأرز، والمساحة الزراعية الأكبر المحيطة بالتل مزروعة بالأرز، ولنا أن نتخيل ما الضرر الذي سببته تلك المياه وما تحمله من أسمدة وكيماويات للآثار الموجودة في باطن التل عبر السنوات الماضية، هذا في حالة ما إذا كانت تلك الآثار باقية حتي الآن.
أزمة عزبة باز
من أكثر التعديات تعقيداً علي أرض الآثار بناء مساكن ومنازل عليها وتتفاقم الأزمة إذا ما كانت تلك المساكن مأهولة بالسكان، وهو ما يحدث في "عزبة باز" التي تقع في الجانب الجنوبي الشرقي من تل الفراعين الأثري، وهناك ما يقرب من ٣٣ منزلا في تلك العزبة تم بناؤها علي أرض التل الأثري.
الأزمة بدت واضحة المعالم منذ منتصف أغسطس الماضي حينما قام تفتيش آثار غرب كفر الشيخ بتحرير محضر تعدي بالبناء علي جزء من تل الفراعين المجاور لعزبة باز بمساحة ٠١ أمتار مربعة، حيث قام مهندسو أملاك الآثار برفع التعدي مساحيا وأرسله ضمن مستندات التعدي إلي المجلس الأعلي للآثار لاستصدار قرار الإزالة.
المثير أنه ورد لمنطقة آثار كفر الشيخ من الإدارة العامة للمساحة والأملاك بالمجلس مذكرة مفادها أنه أثناء مراجعة الخرائط الخاصة بالتعدي تبين وجود جزء من تل الفراعين تم استبعاده من اللوحة المساحية الحديثة الخاصة بالتل رغم أن هذا الجزء موجود باللوحات القديمة وهو الواقع بالقطعة رقم ٥١ حوض الشكال ١٢ والمجاور لعزبة باز والواقع به التعدي، وطلبت الإدارة العامة للمساحة والأملاك من منطقة الآثار تصحيح الوضع.
ونتيجة لما سبق، قام مهندس الأملاك بتطبيق اللوحات المساحية القديمة باللوحات الحديثة ليجد بالفعل أن الجزء المستبعد من اللوحات الحديثة مشغول بالكامل بكتلة سكنية مكونة من ٣٣ منزلا تشكل جزءا من عزبة باز المجاورة للتل، وعلي هذا قامت منطقة آثار كفر الشيخ باتخاذ الإجراءات القانونية ضد هذه التعديات.
ثورة الأهالي
الأهالي من جانبهم وتحديداً أصحاب وملاك الـ٣٣ منزلاً موضع التعدي رفضوا ذلك خاصة أن إزالة تلك المنازل ستؤدي إلي تشريدهم وأسرهم، ورفعوا شكوي للأمين العام للمجلس الأعلي للآثار يتضررون فيها من الإزالة وأنهم ليسوا متعدين.
واستندوا في شكواهم إلي أن الأرض المقام عليها المنازل مملوكة لهم بعقد مسجل بتاريخ ١٢/١١/١٢٩١ وأنها جددت بالخرسانة وادخلت إليها الكهرباء وبقية المرافق عام ٢٨٩١ وتساءلوا أين كانت الآثار طوال تلك السنوات لتترك أرضها وتطالب بها الآن؟ وأكدوا أنهم ليسوا متعدين بل أصحاب حق ولابد أن يكون حل تلك الأزمة عادلا ولا يجور علي حقهم وحق أولادهم.
التعديات بالبناء لم تقتصر فقط علي عزبة باز، فهناك عند مدخل التل مقابر خاصة بالمسلمين، كانت أقل عددا ومساحة في السابق، وظلت تتوسع والأهالي يبنون المزيد منها حتي امتدت إلي مساحة كبيرة من التل، كذلك مسجد تم بناؤه علي جزء من التل مجاور لقرية السحماوي، وهو ما يجعل الوضع أصعب وأعقد بكثير من منازل عزبة باز وذلك فيما يتعلق باستصدار قرارات إزالة للمقابر والمساجد من عدمه.
في منطقة المعبد بتل الفراعين العديد من القطع الأثرية متفاوتة الأحجام تم استخراجها منذ ما يقرب من ٠٢ عاما وطوال هذه المدة وهي متروكة هكذا في العراء عرضة لظروف جوية سيئة ما بين درجات حرارة متقلبة وأمطار، ناهيك عن المياه الجوفية والرطوبة المتسبب فيها القرب الشديد لموقع التل من البحر المتوسط وبحيرة البرلس، كما هو معلوم للجميع، كل هذه العوامل وغيرها أصابت تلك القطع الأثرية بأضرار بالغة ما بين ترسب الأملاح وتلف ما بها من نقوش وأحجار، ما يستدعي معه البحث عن حل مناسب وسريع لإنقاذ تلك الآثار وترميمها.
حق الرد
عملا بحق الرد، واجهنا "د. محمد عبدالرافع" مدير عام آثار كفر الشيخ بما سبق، فأكد من جانبه علي الأهمية التاريخة والأثرية التي يحوذها تل الفراعين، ونظرا لاتساع مساحته كان لابد من وسيلة لحمايته من مشاكل ومخاطر عديدة علي رأسها الزحف العمراني الذي يقوم به الأهالي دون أدني وعي بقيمته، وكان لابد من إنشاء سور يحيط به ويحد من أية تعديات عليه.. ورفض بشدة تسمية الأهالي لهذا السور بـ"الجدار العازل"، لأننا حسب ما قال "مش في إسرائيل، إحنا في مصر"، مشيرا إلي تشكيل لجنة لبحث ما، قد يثيره ذلك السور من مشاكل للناس، فكما تهمنا مصلحة الآثار، لا نغفل أبدا مصلحة الناس ونحاول التوفيق بين الاثنين.
وقال مستغربا: لما المجلس الأعلي للآثار يسيب التل من غير سور يكون وحش، ولما يعمل سور يحمي التل يكون برده وحش ويضر الناس، مش عارف نعمل لهم إيه".
وفيما يتعلق بأزمة عزبة باز، أوضح عبدالرافع أن منطقة آثار كفر الشيخ قامت برفع مذكرة تفصيلية للسلطة المختصة بالمجلس الأعلي للآثار لتشكيل لجنة من الآثار والمساحة العامة وأملاك الدولة والمحافظة لبحث الأسباب التي أدت إلي استبعاد مديرية المساحة للجزء الذي يقع به التعدي من الخرائط المساحية الحديثة، وقد صدر الأمر الإداري رقم ٦٨٤١ بتاريخ ٧١/٥/٩٠٠٢ بتشكيل تلك اللجنة لبحث الأمر ولازالت تواصل عملها حتي الآن لإيجاد حل للأزمة كلها.
الكتل السكنية
"صبري عبدالعزيز" رئيس قطاع الآثار المصرية بالمجلس الأعلي للآثار قال: من خلال تجاربنا مع المواقع الأثرية المجاورة للكتل السكنية الجديدة لم نجد حلا للحفاظ عليها إلا بإقامة سور قوي حولها يحميها من التعديات، ولنا في نزلة السمان مثال علي ذلك.
وأضاف: أقمنا سورا من الطوب والدبشة حول المنطقة الأثرية في نزلة السمان والأهالي هدموه وبعد عدة مرات اضطررنا إلي إقامة سور قوي، وهاجمنا الناس وقالوا: "إحنا مش في إسرائيل"، فالكثير من الناس عندنا ليس لديهم الوعي الكافي بقيمة هذه الآثار وكيفية الحفاظ عليها.
وأوضح أن المجلس ليس ضد الناس، مشيرا إلي أنه لا يوجد أثر بدون بشر وما لم نحافظ علي البشر فلا وجود للآثر، وعندما نقيم سورا حول منطقة أثرية، نراعي وجود كتل سكنية ونترك مساحة كافية وأماكن لمرور سيارات الإسعاف والإطفاء في حالات الأزمات والطوارئ، كما أننا انطلاقا من مراعاة المصلحة العامة، في حال وجود أراض موضع تعدي، نحفرها ونخليها من الآثار إذا ما وجدت ثم نسلمها للأملاك العامة تتصرف فيها.
واسترجع "عبدالعزيز" ذكرياته حينما عمل سابقا مفتشا للآثار في تل الفراعين وإعداده لرسالة الماجستير عنها وقال: دول ناسنا وأهالينا وعملت معهم لسنوات عديدة، ولازم نشوف مشاكلهم ونحلها علشان هم اللي يحافظوا علي التل، لأنهم لو كرهونا هيتعدوا علينا وإحنا ما نرضاش بكده خالص، وعمرنا ما هانعمل سور علي علي أملاك الغير وهنعوض الناس بالتأكيد، وأنا بنفسي هانزل هناك شخصيا وهنشوف حل يراعي مصلحة الناس ويحمي الأثر في نفس الوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق