كشف صلاح عادل الفنان التشكيلي والباحث في الأثار الإسلامية حكاية"حارة اليهود",حيث قال حملت الحارة معالمهم، وبدت حرفهم وصناعاتهم التي اشتهروا بها..حتي اسم الحارة لم يتغير بعد "حارة اليهود"، وقد اختلفت الاراء التاريخية حول يهود الحارة وسبب تواجدهم هنا، فالبعض أشار إلي أن اليهود هم انفسهم من جنحوا الي التجمع بمكان يضمهم ويحوي طقوسهم وآخرون زعموا ان السلطات هي من جمعتهم بهذا المكان وحاصرتهم بربوع الحارة، وفي الحارة لبس بسيط، وبين الرأيين غلب الرأي الاول من خلال التعرف علي شخصية اليهودي الذي يجنح دائما إلي العزلة بحسب المعتقدات التوراتية وذلك للتمكن من ممارسة شعائرهم وطقوس العبادة والطعام والشراب، فاليهودي لايأكل الا الذبائح التي تذبح بحسب الشريعة اليهودية، واليهودي يأثم إثما كبيرا لو ادي صلاة السبت بمفرده وانما يتوجب عليه ان يؤديها في جماعة
حارة اليهود
بقيت المعالم والبنايات التي تحمل النجمة السداسية هنا شاهدة علي تواجد اليهود واستقرارهم وبخاصة مع وجود ثلاثة معابد يهودية ما تزال موجودة بالمكان، وقد يظن البعض أن حارة اليهود هي حارة أو زقاق ضيق وهو زعم خاطئ كون الحارة عبارة عن حي يضم اكثر من 350 حارة مابين الأزقة الضيقة والحواري المتعرجة التي في النهاية تشبه الي حد كبير السراديب المكشوفة..استوطن اليهود الحارة وراجت تجارتهم، واستمرت شاهدة عليهم وعلي وجودهم فحارة اليهود بحي الموسكي الذي يتبع الجمالية ما يزال محتفظا بمحلات المجوهرات التقليدية والذهب الصيني، وكان المعلم الزمني أراد صهر الماضي بالحاضر لكنه استبدل العنصر البشري باخر والمادة الخام بمادة أخري فبدل التاجر اليهودي اضحي هناك التاجر المسلم والمسيحي وبدلا من صناعة الذهب، تتم صناعة الحلي الشعبية والذهب الصيني رغبة في شيء واحد فقط هو بهجة الفقراء
دكاكين مجوهرات تقليدية، لعب اطفال، مسمط لبيع احشاء الحيوانات واطعام العمال، احترس وانت تسير وانتبه لظهرك مخافة ان تصطدم بك عربة يجرها شاب ينادي بصوت عال: "ظهرك يا محترم" ثم سرعان ما يمر الي جوارك مختفيا عن الأنظار بعربته المحملة بكراتين منوعة بينما التاجر يهرول وراءه لاحقا ببضاعته للحظات ويختفي الشاب والعربة وصاحب البضائع تبتلعهم تعرجات حارة اليهود بدهاليزها..وحدوتة الحارة تروي أنه في عام 1848 تجمع قرابة 5 آلاف يهودي من عدد وصل إلي 150 الف يهودي يقطنون محافظات مصر بحي الموسكي الشهير بالحركة التجارية وتجهيزات العرائس، وظن التجار اليهود انه بإمكان اليهود الفقراء من المصريين التجمع بهذا الحي وممارسة الحرف اليدوية من خلال التدريب علي يد كبار الصناع اليهود والحرفيين،وظل الاثرياء اليهود الذين يعيشون في مصر يتابعون أحوال أقرانهم اليهود الفقراء ويمدونهم بالمال بهدف المساعدة علي تعلم الحرفة وليس الكسب
ودليلنا في الحارة الحاج محمد نور والبالغ من العمر قرابة التسعين عاما يبحر بذاكرته ويؤرخ قائلاً: "فكرة حارة اليهود كانت في الأساس قائمة علي تجميع اليهود الفقراء واكسابهم الحرف، وكان اليهود مهرة جدا في طلاء النحاس والمعادن والمشغولات الحديدية.ولعلني اعود بذاكرتي الي سنين طويلة .حيث كنت أعمل أنا وتاجر كبير الآن لا داعي لان اذكره في محل الخواجة كنعان .كنا وافدين من بلادنا في الدلتا، وكنا مجرد شيالين، لكن الخواجة كنعان كان رجلا طيبا ومتدينا، في يوم طلب منا الخواجة كنعان أن نساعده، ومرة في مرة بدأت أنا وصديقي التاجر الكبير حاليا نقوم بتعلم المهنة من الخواجة، لكن الصراحة أن الخواجة كنعان كان حريصا جدا علي مهاراته وعندما شاهد إصرارنا علي العمل معه وتعلم الحرفة اخدني من يدي وقالي: يا محمد أنا هاعلمك تحول الحديد دهب، وكانت الجملة المقصود منها هو تعليمنا فن الطلاء لانه وقتها لم تكن هناك اجهزة كمبيوتر ولا معايير رقمية لإضافة المواد للطلاء كان الموضوع كله بحسب مهارة الفرد
.كان معنا في المحل مجموعة شباب يهود، صراحة كان الشباب اليهودي في الحارة خواف ويخشي من حدوث اي مشاكل، وكنا بنعاملهم معاملة طيبة وهم كذلك، أغلب من كان معنا من الشباب اليهودي فقراء لدرجة شديدة جدا لكن للأمانة كان عندهم اصرار غير عادي، وكان كل يوم سبت يأتي إلي الخواجة كنعان رجل ثري وبيده حقيبة، يعطي الحقيبة للخواجة كنعان ويجلس هو والخواجة علي المكتب الخشب ويتبادلان الحديث همسا ثم ينصرف الرجل، بعدها يبدأ الخواجة كنعان في توزيع بعض الأموال علي العمال اليهود. تعايش اليهود مع المسيحيين والمسلمين في الحارة حياة طيبة جدا وكان لهم معابدهم لأداء صلواتهم يوم السبت وكنا نقوم احيانا بزيارة بيوتهم، لكن كانوا حريصين جدا علي حياتهم الشخصية، وفكرة البخل المتوارثة عندهم تعود في الاساس الي فكرة الجبن لانهم جبناء جدا ويخشون تقلب الزمن .لكن الحقيقة انهم دائما كانوا يشاركوننا أحزاننا وأفراحنا
ويعود محدثي مرة اخري مكملاً: "أغلب الدكاكين التي تراها الآن لتجار يهود تركوها لأصدقائهم المصريين دون عقود ظنا منهم أنهم سيعودون إليها مرة أخري، فلازلت أذكر موقف الخواجة كنعان بعد النكسة حين بكي أمامي وقال لي: "مكتوب إني أمشي يا محمد" واصطحب سارة ابنته وسافر ولا أدري اين سافر، لكن دعني اقول لك: إن بعض الشباب كان يتناقش معه بعد حرب 1948 وكنا بعد النكبة نمقت وجودهم جدا وهم كانوا يشعرون بذلك، ولكن مثلا الخواجة كنعان كان دايما يقولي "يا محمد يا اخويا اليهودي عايز يعيش في امان وسط ناس بيحبوه وانا عمري كله في مصر من ساعة ما امي جاءت من بابل .وفكرة وطن يجمع اليهود ده سرقة ونصب ولا موسي ولا توراة يرضي بيه، وانا عايز اعيش واموت في مصر يا محمد "
ويكمل الحاج نور :"الخواجة كنعان كانت ابنته تدرس الحقوق بجامعة فؤاد الاول وكانت أحيان كتيرة تأتي سارة الي الورشة، بعد النكسة لم يكن هناك من مفر الي الرحيل عن مصر بسبب التخوف عند اليهود من عبد الناصر الله يرحمه، أهل حارة اليهود فوجئوا بعد النكسة باسبوع بأن ورشة الخواجة كنعان مغلقة، اعتقدنا انه سافر ميت غمر لبعض اقاربه هناك، ولكن بعد مرورو اكتر من ستة أشهر، فتح أهل الحارة الورشة فلم يجدوا فيها سوي ماكينة الكبس وأوعية الطلاء "
ثلاثة معابد
ثلاثة معابد فقط هي حصيلة المعلم المكاني المتبقي بحارة اليهود وأن تحول أغلبهم إلي مقالب للقمامة باستثناء معبد موسي ابن ميمون الشهير والذي عرف صاحبه الفليسوف والطبيب اليهودي ابن ميمون بحبه للمسلمين وتقربه إلي الخليفة صلاح الدين الأيوبي. إضافة إلي وجود بعض الأزقة التي تحمل الأسماء العبرانية كحارة "ابراهام" ودرب نصير..ومرة أخري مع أحد شهود العيان المقدس وهبة الذي يروي حواديت المعبد بحد تسميته..فيسرد: "معظم التجار الكبار هنا داخل حارة اليهود وافدون من الاقاليم وارياف مصر وكنا ناتي هنا ونعمل ونبيت في نفس الورش التي نعمل بها، وكان يوم السبت هو يوم إجازة الحارة وبات هذا اليوم هو يوم المتعة الروحية لكل العمال والحمالين في الحارة. كنا نتوجه جميعا يوم السبت الي المعابد اليهودية، صراحة كنا نذهب الي المعابد بسبب أشجار التوت التي كانت تكثر في ساحات المعابد وكان عم يعقوب حارس المعبد يتركنا نصعد الشجرة وناكل التوت ونرقب الاحتفالات
ولعل ما يدور بالذاكرة الآن هو مشهد فتيات الحارة اليهوديات واللاتي لم يكن مسموح لهن بالفسحة إلا يوم السبت فكنت أنا وأصدقائي المسلمين نذهب لمحاولة جذب أطراف الحديث مع اليهود، ولعل موقف استحضره الآن كما يمر امام عيني حين وقع صديقي علي الذي وفد من قنا في حب فتاة يهودية..وكنت انا الشاهد علي هذه القصة، كان اسمها راما. وكنا نلتقي خلسة بعد إغلاق الورشة في ساحة الحسين، ولما توهجت قصة الحب بين علي وراما، تشجع علي وأخبر والده أنه يحب يهودية ويريد الزواج منها، لكن بعد 3 أيام، فوجئنا بأن علي محجوز في الكاركون لأن أبوه اتهمه بسرقة مصاغ أمه، وكان هدف ابوه هو طبعا اثناؤه عن فكرة الارتباط باليهودية، صراحة كان يوما لا استطيع نسيانه حين سمح المخبر للحاج محمود والد علي بزيارته، وكنت انا معاه، تنتاب المقدس وهبة ضحكة يعقبها قهقهة تدمع لها عينه.. ذهبت مع عم محمود لأجل زيارة علي، وطبعا عندما شاهد الحاج محمود ابنه نهره وخلع البلغة وضربه علي راسه وهو يقول له "يهودية يا ابن الكلب "..ثم تنازل عن المحضر وعاد علي عن فكرته، يصمت محدثي للحظات ثم يختم لقائي به قائلا :""هييييييييه دنيا الله يرحم الجميع أمواتنا وأموات المسلمين والنصاري واليهود"
براعة اليهود
برع اليهود كما اسلفنا في طلاء المعادن وصناعة الجواهر إلا أن الصناعة والحرفة التي كانت مشهورة لديهم هي صناعة الخزائن والخزن لدرجة أن ثلاث حواري بالحي اليهودي تحمل اسم الخزانين أي صانعي الخزن، وتعود مهارة اليهود في صناعة الخزن الي حرصهم الشديد في انفاق الأموال، وقد عرفت الصورة الشهيرة والتي ما تزال متواجدة داخل بعض المحلات "صورة للتاجر الذي يبيع نقدا والتاجر الذي يبيع بالدين". كمعلم للتعامل المادي مع التاجر اليهودي .ومع شاهد جديد يروي كيف كان اليهود يتعاملون نقدا بقوله: "التاجر اليهودي أو الصانع اليهودي كان يقوم بتجميد الاموال ثم يضعها في الخزينة ولا يبقي معه إلا بضعة مليمات هي حجم نفقاته الشخصية والأسرية، وكان ما يدخل الي الخزينة يصعب أو قل يستحيل أن يخرج ثانية"
ماري آخر نساء اليهود بمصر
في بداية الالفية كان بيت ماري اليهودية المصرية الأخيرة والكائن بحارة اليهود معلم حياتي لامرأة يهودية رفضت الرحيل عن مصر رغم كل المجهودات التي بذلتها السفارة الصهيونية بالقاهرة لترحيلها إلي تل أبيب إلا أن ماري رفضت الرحيل وأعلنت موقفها صراحة بأنها لن تترك مصر وانها تريد أن تموت هنا إلي جوار جيرانها، وكانت ماري مثالاً للنموذج اليهودي الذي امتزج بالهوية المصرية وآثر البقاء عن الرحيل عن الأراضي المصرية. إلا أن السفارة الإسرائيلية أصرت عقب وفاتها علي ترحيل الجثمان الي القدس المحتلة ودفنها في المقابر اليهودية
موسم الرحيل
كانت بداية نزوح اليهود ورحيلهم عن ارض مصر مع عام 1948 تزامنا مع احداث النكبة ثم احداث عصابات الهجانة وما فعله السفاحون الصهاينة بالعرب العزل والاطفال الأمر الذي ترك انطباعا سيئا أو ذنبا حمله يهود مصر بسبب عرقهم الديني، ثم مع بداية ثورة يوليو تزايدت اعداد المهاجرين خوفا من المد الثوري وأن يقوم عبد الناصر بإحراق اليهود كما فعل هتلر في المانيا، وزادت وتيرة الهجرة في العام 1967 حيث كان فرارا جماعيا تحت اسم البحث عن وطن أو حياة
ولعل من المواقف التي يذكرها المؤرخون هو اندثار اعداد اليهود بحارة اليهود انه مع الهجرات المتزايدة، كانت تواجه اليهود مشكلة في آخر أيامهم بالحارة، عندما لم يتبق منهم سوي 30 امرأة وخمسة رجال فقط، لأن الشريعة اليهودية تشترط إقامة صلوات السبت في وجود عشرة رجال علي الأقل. ولذا، فقد عاني اليهود من عدم الصلاة جماعة، وكانوا يقومون بالصلاة فرادي، وهو أمر عظيم حسب شريعتهم. مما دعا الحاخام الإسرائيلي »ألبير شيرازي« إلي أن يدعو إلي الحضور إلي مصر في عيد رأس السنة العبرية وعيد الفصح لإقامة شعائر الاحتفال في الحارة، في النصف الأخير من القرن الماضي. وهو ما ذكره الكاتب طه علي
يهود مصر
ولعلني اختم هنا بكتاب العالم المصري الطبيب محمد أبو الغار والمعنون ب "يهود مصر من الازدهار إلي الشتات" حيث يقول كاتبنا "يهود في مصر لم يكونوا طائفة واحدة كما نتصور، وهي جالية تكونت عبر مراحل تاريخية طويلة، فقد أقام في مصر أعداد كبيرة منهم قبل دخول الاسلام، وزادت أعدادهم حتي وصلت إلي 57 ألف يهودي مصري قبل عام 8491 عندما أعلن قيام دولة إسرائيل.أما اليهود المصريون الأصليون الذين عاشوا في مصر قرونا طويلة فيقدر عددهم بنحو عشرة آلاف أي حوالي 51٪ من الجالية اليهودية، وكانوا يتكلمون العربية بنفس اللهجة المصرية وتشربوا العادات والتقاليد المصرية، وشاركوا المصريين أفراحهم وأحزانهم، وكانت أحوالهم تتحسن عندما يعم الرخاء، وتسوء كلما عم الهوان واليأس في البلاد. وقد كان هؤلاء اليهود المصريون الأصليون ينتمي غالبيتهم إلي طائفة القرائين وبعض اليهود الربانيين أقل الطوائف تعاطفا مع الصهيونية
وقد عاش معظمهم في حارة اليهود وبعضهم في وسط الدلتا. وجاء معظم أبناء الجالية من العمال الحرفيين وغالبيتهم ومن الفقراء. ويعيش بعضهم علي معونات الأثرياء ومن المهاجرين حديثا لمصر أو المؤسسات الخيرية. كانوا أولاد بلد حقيقيين، وعاشوا في حارة اليهود يرسلون أولادهم الي المدارس اليهودية التي يمولها أغنياء اليهود. ولم تكن حارة اليهود حكرا علي اليهود فقط، بل كان يسكنها مسلمون وأقباط. ولم يكن يهود الحارة وهم المصريون الأصليون ممثلين في الطائفة اليهودية أو قيادتها في مصر. وقد جري تهميشهم من جانب أغنياء اليهود الذين وفدوا حديثا في مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق