قال سعيد رخا مدير اثار ضواحى رشيد أن مدينة رشيد واحدة من مدن محافظة البحيرة ، وتقع الآن على مسافة إثنى عشر كيلو متر فوق مصب النيل فرع رشيد وكان يعرف قديماً بالأرموسية ويسمى البوغاز وهو كلمة تركية الأصل تعنى Goster أى الحلقوم ، والبوغاز عبارة عن مدخل شديد الضيق يصل إليه المجرى مخترقاً كتل الرمال ومكوناً ذراعاً عند مصب النيل وهذه الكتل الرملية قد تكونت مع ترسيبات النهر حين يفقد سرعته عند إقترابه من البحر وليس هناك ما هو أكثر تقلباً من هذا الممر ، فكتل الرمل التى يخترقها تتحرك على الدوام بفعل الأمواج وعندما تهب رياح الغرب او رياح الشمال بشىء من العنف تندفع مياه النيل من جديد نحو الجنوب فيضطرب المجرى فىكل مكان ، وتمثل رشيد إحدى زوايا المثلث الذى تشغله الدلتا بين القاهرة ودمياط ورشيد ، وكان هيرودوت أول من أطلق كلمة (الدلتا) على السهل المتكون من ترسيبات النهر والذى يشبه حرف الدال اليونانى (الدلتا) على السهل المتكون من ترسيبات النهر والذى يشبه حرف الدال اليونانى (الدلتا) على شكل المثلث المقلوب .
وتعتبر مدينة رشيد واحدة من أهم ثغور مصر ، وقد ذكرها سترابون باسم بولبتين ، كما ذكر أنها تقع على مصب فرع النيل البولبتينى " فرع رشيد " ، وقد اشتق إسمها من الإسم الفرعونى "رخيت " وهو إسم يعنى سكان منطقة الدلتا وقد تحول ذلك الإسم إلى الإسم القبطى وهو "رشيت" ثم تحول فيما بعد إلى رشيد ، والرخيت هم سكان الدلتا القدماء قبل الوحدة السياسية بين الشمال والجنوب، والفرع البولبتينى أحد فروع النيل السبعة فى العصور القديمة وتتفرع من الفرع الكانوبى "ترعة الإسكندرية " ويسير متبعاً فى سيره فرع رشيد الحالى ، أما أسمه فقد أشتق من مدينة بولبتين وهذا الفرع لم يكن فى زمن هيرودوت 450 ق.م سوى ترعة حفرتها يد البشر كما ذكرها هذا المؤرخ وقد ورد ذكره بأنه فرع منذ زمن سترابون 1 ق.م وكان أكثر انحدراً وإستقامة فى مجراه وقد تضاءلت أهمية الكانوبى الذى أصبح ترعة وأصبح البولبتينى فرعاً ، وقد أطلق الرومان على الفرع البولبينى إسم الأشتوم وهى تعنى الحلقوم وتعنى البوغاز أيضاً ، وكانت المنطقة التى تشغلها مدينة رشيد فى العصر الفرعونى ضمن المقاطعة السابقة "رع امنتى" أو "نفرامنتى" وهى المقاطعة الأولى غرباً وسماها اليونانيون متيليت وتقع بين الاسكندرية والفرع البولبتينى ، وتعنى كلمة متيليت بلد الأجانب إشارة إلى الهلينين الذين سكنوا شمال الدلتا ، وكانت منطقة كان"أبو قير" من مدن المقاطعة إلى جانب مدينة بولبتين وتشغل الآن شمال محافظة البحيرة .
وعندما غزا الاسكندر الأكبر مصر وقام ببناء مدينة الاسكندرية سنة 331ق.م بدأت مدينة بولبتين فى الأضمحلال حيث تحولت التجارة عنها إلى الفرع الكانوبى إلا أنها ظلت تؤدى دورها الدينى والتجارى واستمرت بها صناعة العجلات الحربية أيضاً ، وكانت نتيجة لموقع رشيد على البحر المتوسط وعلى مدخل نهر النيل أثر كبير فى زيادة الإهتمام بتحصينها ففى عصر الدولة المصرية الحديثة 1575 :1085ق.م وفى عهد الأسرة التاسعة عشر (1308 - 01186ق.م) قام الملك منفتاح ببناء تحصينات فى رشيد فى المدة من 1224 :1214ق .م وذلك للدفاع عن البلاد ضد هجمات قراصنة البحر ، وقد حاول بسماتيك الأول مؤسس الأسرة السادسة والعشرين أن يعيد إلى مصر وحدتها فأقام معسكراً على ساحل مدينة رشيد لحماية شواطىء رشيد .
وفى العصر البطلمى 333 ق.م كانت مدينة بولبتين سوقاً رائجة وكان بها معبداً كبيراً سمى "بولبتنيوم" وهذا المعبد كان يضم فى جنباته نسخة من القرار الذى صدره مجمع الكهنة إجلالاً وتقديراً للملك بطليموس الخامس عام 196ق.م وكان مدوناً على حجر باللغة الهيروغليفية واليونانية والديموطيقية ، وقد إكتشفه الفرنسيون عام 1799م بقلعة قايتباى برشيد وكان جزءاً من البناء نقل ضمن الأحجار المستخدمة والتى جلبت من أطلال بولبتين ،وإستولى الإنجليز على هذا الحجر وهو ما يعرف بإسم "حجر رشيد" الذى كان مفتاحاً لفلك طلاسم ورموز اللغة المصرية القديمة على يد العالم الفرنسى شامبليون وهو الآن محفوظاً بالمتحف البريطانى
وقد إحتفظت مدينة رشيد بمكانتها الدينية حتى العصر البيزنطى وكانت تمثل نظاماً مسيحياً منعزلاً عن باقى مدن الدلتا نتيجة لإحاطتها بالبحيرات والمجارى المائية وإستمر هذا الدور حتى الفتح العربى لمصر على يد القائد عمرو بن العاص فبعد أن فتح مدينة الاسكندرية 641هـ وعقد صلحاً مع صاحب رشيد ويدعى "قزمان" وقد أدى الجزية للمسلمين وبقيت الكنائس فى رشيد كما هى لمن بقى على دينه من أهلها ومع أن رشيد فتحت صلحاً إلا أنها كانت مسرحا للعديد من ثورات الأقباط وذلك ما حدث عام 107هـ وعام 133هـ <ولقد ذكر المؤرخون ان مدينة رشيد الحالية بدأت فى الظهور عام 256هـ /870م عندما أمر الخليفة العباسى المتوكل بإنشاء عدد من الربط فى عام 239هـ/853م ، والرباط عادة ما يكون ذا طابع دينى وحربى معاً ويقع على الحدود الإسلامية وفى ثغورها المعرضة للأعتداء بعد التهديد البيزنطى للثغور المصرية وفى عام 256هـ/870م شهد تحولاً فى التجارة من الفرع الكانوبى الذى جف تماماً فى هذه السنة وإنعزلت الإسكندرية وإضطرت الملاحة إلى العودة مرة ثانية لفرع رشيد وإنعزلت أيضاً مدينة فوة والتى كانت تقصدها السفن من الإسكندرية .ولقد إزدهرت مدينة رشيد فى القرن 3هـ وأصبحت مدينة آهلة بالسكان ولها ميناء هام وتضم أربعة عشر قرية ثم إضمحل شأنها فأصبحت تضم رشيد وإدكو ثم أصبحت تابعة للأسكندرية وكان بها سوق وحمام ونخيل كثير ولها إيراد واسع.
وفى العصر الفاطمى أصبحت مدينة متحضرة وأنتعشت تجارتها ومزراعها بعد أن أنشىء الفاطميون مدينة القاهرة 358هـ - 969م وتدهورت الإسكندرية تماماً وأصبحت رشيد مع دمياط ميناءين هامين ومركزين للتجارة ، وقد تعرضت مدينة رشيد فى أواخر العصر الفاطمى مع غيرها من المدن الساحلية لحملة قبرصية سنة 550هـ / 1160م وكان السلب والنهب هو الأثر الذى تركته هذه الحملة البحرية عليها
وفى العصر الأيوبى تركز الصراع على الجهة الشمالية الشرقية للدلتا وبرغم ذلك فقد إتخذ فرع رشيد طريقاً لإحدى الحملات الحربية الذى سلكته حتى فوة عام 600هـ / 1023م حيث أقامت هناك أيام تنهب المدينة .
وفى القرن السابع الهجرى كانت رشيد قرية صغيرة وقد وصفها ياقوت الحموى بأنها بليدة على البحر والنيل قرب الإسكندرية ، كما يذكر ابن مماتى ما كان يؤخذ من ضرائب مفروضة على المراكب التجارية الوافدة حيث كانت الرياح تدفع المراكب فتدخل ميناء رشيد ويصعب إخراجها إلى الإسكندرية ويرسل موظفين من الاسكندرية لتقدير الضرائب على هذه المراكب التجارية ونتيجة لذلك أصبحت رشيد فى المركز الثانى بعد الاسكندرية وكانت الرمال تسد البوغاز وتصل للطرق والمبانى ، وأدى ذلك لتدهور التجارة فى رشيد فى العصر الأيوبى حيث أنتقل أهلها إلى مدينة فوة .
أما فى العصر المملوكى فزاد الإهتمام برشيد وصارت ثغراً مستقلاً بذاته فى عصر الناصر محمد بن قلاوون واصبحت من الأعمال النستراوية نسبة إلى نستراوة شمال بحيرة البرلس ، كما أنشىء بها منار عمره السلطان الظاهر بيبرس البندقدارى وبأسفله برج عمره صلاح الدين بن عرام على شاطىء النيل ، كما أنشأ فيروز العرامى برجاً كذلك ، ونتيجة لأهمية رشيد فقد أصبحت مطمعاً للقراصنة القادمين من جزر البحر المتوسط والذين كانوا يتخذون من رودس قاعدة لهم . وكانت هذه الأخطار سبباً رئيسياً دفع السلطان جقمق 845هـ / 857م إلى تزويد المدينة بالجنود لحمايتها من الجند الفرنجة وهجماتهم ، كما أنشأ السلطان قايتباى 876هـ - 1472م قلعة بها ، وأمر السلطان الغورى بإنشاء سور على ساحل البحر وأبراج لحفظ الثغر وشجع الأجانب على الإقامة بها وخاصة البنادقة منهم .
وفى العصر العثمانى أصبحت مدينة رشيد مركزاً هاماً للتجارة الدولية والبحرية مع إستانبول بعد أن إستولى السلطان سليم الأول على مصر فى عام 1517م وأصبحت اقرب الثغور المصرية إلى عاصمة الدولة العثمانية وشهدت رشيد تزواجاً عظيماً بين الفنون العثمانية والمصرية والمغربية وأنشئت بها الدور والحمامات والمساجد وأصبح الثراء الفنى والمعمارى بهذه المدينة يدل دلالة واضحة على مدى التطور الاقتصادى والفنى والمعمارى فى العصر العثمانى .
وفى ظل الإحتلال الفرنسى لمصر فقد إستولى الفرنسيون على مدينة رشيد فى يوليو 1798م بدون قتال ووضعوا فيها حامية وصار الجنرال مينو حاكماً عليها ، وقد أنشأ الفرنسيون معسكرات خارج المدينة لحمايتهم وكانت تسمى "القشلة " وإهتم الفرنسيون بترميم قلعة قايتباى برشيد خاصة بعد هزيمتهم أمام الإنجليز فى أبو قير وأطلقوا عليها "قلعة سان جوليان " وهو إسم لأحد جنودهم الذى قتل أثناء الحملة وعندما غزا الإنجليز مصر 1807 م وشرعوا فى غزو رشيد أرسل محمد على النجدة إلى المدينة ، كما شرع فى بناء سور حول المدينة وأبراج خارجها وقام بتحصين الطوابى بسواحلها ، وقد استطاع أهالى رشيد أن يتصدوا لهذا الغزو الإنجليزى ويجبروا الجنرال فريزر على توقيع معاهدة تنص على الإنسحاب الكامل من مصر ، إلا أن عصر محمد على كان بداية لإضمحلال المدينة خاصة بعد حفر ترعة المحمودية 1819 والتى تسبب فى تحول التجارة إلى مدينة الإسكندرية ، ومع أن محمد على قد أنشأ المصانع المختلفة برشيد إلا أنها لم تكن عوضاً عن التجارة وحدث لرشيد ما حدث فى الماضى لمدينة بولبتين حيث هجرها أهلها وتهدمت منازلها وأغلقت وكالاتها وغطتها الرمال .
وفى العصر الحديث أطلق على مدينة رشيد الإسم اللاتينى Rosetta أى الوردة البيضاء وخلبت المنطقة لب الرحالة والمؤرخين فأبدعوا فى وصف مزراعها وحدائقها ، كما أن مدينة رشيد لم تأخذ إسمها المكتوب باللاتينى لأنها على شكل الوردة ولكن لأن الحدائق تحيط بالمدينة من كل جانب ، وفى نطق الإسم فان العادة التى نتبعها فى نطق الصعب حيث أنه مشتق عن الأسم العربى الأصعب وهو رشيد وهى بالتأكيد أكثر مدينة مقبولة فى مصر عن أى مكان آخر ، وقد بنيت منازلها بصفة عامة بصورة أفضل من منازل القاهرة وكان لموقعها على نهر النيل يعطى منظراً رائعاً للزراعة الأكثر جمالاً وهذا ما أطلقه عليها سونينى "حديقة مصر ".
لقد كانت مدينة رشيد من المدن التى لعبت دوراً هاماً فى التجارة المصرية على مر العصور نظراً لموقعها وإشرافها على مدخل فرع رشيد حيث أصبحت المدينة أقرب المدن المصرية إلى إستانبول وكانت السفن ترد إليها محملة بالبضائع من أوروبا وأمتلك أهلها السفن التى تنقل البضائع إلى أوروبا مما كان له اثر كبير فى الإزدهار الإقتصادى الذى كان من نتائجه تطور العمران وإزدهاره وأصبحت رشيد من المدن ذات الطرز المعمارية الخاصة التى واكبت الإزدهار الإقتصادى الذى كان من نتائجه تطور العمران وإزدهاره . ولقد أعيد بناء هذه المدينة فى العصر العثمانى حيث لم يتبقى من آثار المماليك سوى الأسوار والقلاع خارجها.
وتحتفظ مدينة رشيد حتى الآن بالعديد من آثارها التى أقيمت فى العصر العثمانى والتى يبلغ عددها حالياً إثنان وعشرون منزلاً وحمام وطاحونة بالأضافة إلى إحدى عشر مسجداً وزاوية وثلاثة أضرحة . والمنازل الباقية برشيد تعد أكبر مجموعة منازل أثرية بمدينة واحدة فى مصر وقد ضمت هذه المنازل مميزات فريدة كان للظروف الطبيعية أثراً فيها لقرب المدينة من البحر وكثرة الأمطار فصل الشتاء والحرارة الشديدة صيفاً أثره البالغ مما يؤثر سلباً على مبانى هذه المنازل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق