تحقيق .. علاء الدين ظاهر
تمتلك مصر قوة بشرية متمثلة في كفاءات في مجالات كثيرة ومنها الآثار،والتي تتطلب يقظة دائمة لحماية كنوز وتراث الوطن من العبث به وخلط المزيف مع الأصلي من قبل ضعاف النفوس،والذين يستبيحون لنفسهم المساهمة في سرقة آثار مصر.
وقد شهدت السنوات الماضية حالات نصب كثيرة وقع ضحيتها كثيرون،حيث لم يعد الأمر مجرد احتيال مزوري الآثار بصناعة نماذج بدائية وسيئة،بل هناك متاحف عالمية كبري تقتني آثارا مهمة اكتشفت بعد سنوات أنها مزيفة وليست أصلية.
اذا هذا الأمر يتطلب مضاعفة جهود الأثريين والعاملين بالأثار وهو ما قاموا به بالفعل قدر المستطاع،لكشف أي تزييف للمواد والأحجار المستخدمة في تشكيل النماذج الأثرية قديماً، وتزوير النماذج الأصلية بالحذف أو الإضافة للتضليل وطمس الحقائق.
# العملات والأوشابتي
في البداية كشف د.علي أحمد أحمد المشرف الأسبق على المكتب الفني لوزير الآثار أن العملات وتماثيل الأوشابتي أكثر مايتم تزييفه،ومنذ عام 1912 حتي عهد الملك فاروق إنتشرت عمليات تقليد بارعة للأثار،وأغلبها كان لعائلة إخناتون وتماثيل أوشابتي،وكان المزور يأتي من أي معبد بقطعة حجرية قديمة بلا نقوش،ليقوم هو بنسخ أي نقش أصلي عليها،أو أن يأتي بلوحة حجرية من معبد لا تحمل أي نقوش ويقوم بنقشها،ثم يأتي بكتان مومياوات من مقابر مجهولة ويكفن الكتلة الحجرية به،ويدفنها في الأرض لفترة لتكتسب صفات الأثر القديم.
وعن فكرة وجود قطع مزيفة في المتاحف الكبري بالعالم،قال أن متحف اللوفر كانت به قطعة طوال عشرات السنين،وبعدها تم التأكد أنها غير أثرية وتم حذفها من كتالوج المتحف،وفي بلجيكا رأيت في أحد متاحفها قطعة شككت في أثريتها،وبعد فحصها تم التأكد أنها فعلا غير أثرية وقالوا أنها إهداء من قنصل بلجيكا في الإسكندرية وإشتراها من تاجر علي أنها أثرية،والقنصل أهداها للمتحف.
# إستنزاف للتراث
تفاصيل أخري ورؤية مختلفة كشفها لنا الدكتور أحمد بدران أستاذ الآثار المصرية بكلية أثار جامعة القاهرة،حيث قال أنه في مصر هناك قطع أثرية في المخازن والمتاحف مشكوك في أثريتها وحقيقتها، كما أن أعظم المتاحف في العالم مثل اللوفر والميتروبوليتان والبريطاني وبرلين كانت بها في بعض الفترات قطع ليست أثرية
وأكد علي أن عدم التحقق من أصالة القطع الأثرية يمثل إستنزافا للتراث والهوية،لافتا أن الموقع الذي تم إستخراج القطعة منه وتنسب إليه من أبرز عوامل كشف حقيقة الأثر من زيفه،كذلك البيئة المحيطة ودلالاتها،وما يمثله للحضارة والعصر الذي ينسب اليه، كما أن النص والكتابات والخرطوش له دور كبير جدا في التحقق من أثرية القطعة،كذلك مادة الصنع وطبيعتها والعلامات التي تؤكد أثرية القطعة.
وأشار إلي وجود 3 مصطلحات مهمة يجب التفريق بينها في هذا الإطار،أولها"ريبيلكا"وهي نسخة طبق الأصل، ولصناعتها لا بد أن يكون أمام الصانع النموذج الأصلي للقطعة الأثرية نفسها،و"كوبي"وهي نسخة مقلدة وتصنع بناءا علي مفهوم العصر الذي ينتمي له الأثر،والثالث هو القطع التي تستخدم في عمليات النصب والإحتيال بالإيحاء أنها حقيقية.
وعن الحل من وجهة نظره،قال بدران:لا بد من إنشاء مركز علمي يضم خبراء من تخصصات مختلفة بجانب تخصصات الأثار،وهذا المركز يضع معايير للكشف عن أصالة الأثر ومدي أثرية القطعة من عدمها.
# الحس الأثري
الدكتور مدين حامد عبد الهادي مدرس علاج وصيانة المخطوطات والوثائق الأثرية بكلية الآثار جامعة الفيوم،كشف عدة وقائع ذات دلالات مهمة في هذا الإطار،منها تمثال أسيوط في 25 أغسطس2017م،حيث تم الدفع بأثرية تمثال من لجنة شكلتها وزارة الآثار استناداً إلي مادته وتطابق ملامحه ودقة تشريحه والفترة الزمنية له،هذا رغم زيفه الواضح من خلال الحس الأثري والعين المجردة الخبيرة، ما دفع وزارة الآثار لإعادة فحصه ومعاينته ليثبت زيفه وعدم أثريته.
كذلك آثار مكتشفة بمنزل مواطن في إدفو بأسوان في 25 سبتمبر2017م، والحكم بأثرية نماذجها عند المعاينة رغم زيف لوحتي تقديم القرابين من الحجر الرمل والجيري ضمن محتوياتها، فلا وجود لمظهر القدم الطبيعي علي سطح مادتيهما مطلقاً.
ومصحف جامعة برمنجهام البريطانية في 14سبتمبر2017م،حيث قدر باحثو الجامعة عمره إلي ما قبل بعثة النبي محمد"ص"اعتماداً علي النتائج التي حصلوا عليه من تقدير عمره بالكربون المشع،دون الوضع في الاعتبار مادة تدوينه من حبر لم يحددوا ماهيته،وإن كان التقدير حقيقياً – رغم نسبة الخطأ الواردة – فلم يدرك هؤلاء أن حوامل المخطوطات قد يجري تحضيرها في فترة تسبق زمن تدوينها أو نسخها، ورغم استخدام تلك الجلود قبل وبعد بعثة رسولنا الكريم ، لكنه محض افتراء بمعاونة من الجانب الإسرائيلي في هذا الوقت للنيل من عقيدتنا وتاريخنا.
وهناك أيضا البردية المعروفة اعلامياً ببردية زواج السيد المسيح عليه السلام ، والتي بيعت من قبل أحد الباعة الجائلين لأحد المتاحف الألمانية ، وكانت مزورة نظراً لاستخدام قطعة أثرية من البردي غير المدون والخالي من الكتابة لتدون وتكتب بخط قبطي لم يرد في فترة حياة السيد المسيح.
وأوضح مدين أنه أورد الاختصاصيون والآثاريون العديد من الملامح والمعايير التي يمكن الاعتماد عليها في كشف زيف وتزوير تلك النماذج ، لا سيما تلك الحاسمة من وجهة نظرهم في هذا المضمار كمادة الأثر أو المقتني، لونه، وزنه، أبعاده، طريقة نحته أو تشكيله ، نسق وشكل الكتابات والنقوش،مع وسائل الكشف كاختبارات الحرق ، الملمس، الصلابة، المخدش، الصلادة......، فضلا عن استخدام طرق وتقنيات تقدير العمر كالوميض والتألق الحراري Sl للفخار والآجر"الطوب الأحمر" ، الكربون المشع 14 ، اختبار الفلورين للعظام والبقايا الآدمية ، حلقات الخشب، هجرة المركبات والعناصر وفق معدلٍ زمني.
بعض المعادن وهي تظهر وهجا لماعا عند تعريضها للأشعة الفوق بنفسجية
إلى جانب نتائج الدراسة بتقنيات التصوير والتحليل كالأشعة فوق البنفسجية، الأشعة تحت الحمراء ، ضوء الصوديوم، تعددية الأطياف Multispectra ، حيود وتفلور الأشعة السينية XRD and XRF وتقنياتها ذات الصلة ، الفصل الكروماتوجرافي للملونات والصبغات، طرق الفحص بالمجاهر المختلفة كالإلكتروني الماسحSEM, المستقطبPM.....، طرق التنشيط الإلكتروني والنيتروني.....وغيرها، واستكمالا بمشاهدات الفحص بالكواشف الكيميائية وطرق التحليل الكيميائي الأخرى مما لا يتسع المقام للحديث عنها بشكلٍ حصري.
ورغم هذا فإن تلك النتائج التي يمكن الحصول عليها من تطبيق هذه المعايير وطرق التحليل والفحص لا تحقق يقيناً كاملاً للفصل بين الحقيق والمزيف من جهة ، ولا تكشف ملامح التزوير في النماذج الأصلية لسببين،أولهما أن الكثير منها لا يعطي نتائج دامغةً مباشرة ، وتحتاج إلى خبير على دراية واسعة بالنتائج التي تفرزها تفاعلات تلك المواد ، وتغلفها خلفية تاريخية وفنية، مع الإلمام دوماً بأشكال ونماذج الكتابات، النقوش والزخارف.
والسبب الثاني أن بعض تلك التقنيات والمعايير لا تفي بالغرض المقدم سلفاً، لا سيما وإن تطابقت النماذج المزيفة ونظيرتها الأثرية ، ففي الحالتين تعطي طرق التحليل نتائج متشابهة إلى حدٍ كبير، كما أن المقارنة بين الكتابات والنقوش والزخارف غير دامغة فيهما لتناظر مفرداتهما أيضاً.
وتابع: الاعتماد علي المعايير والتقنيات التي أشير لها سلفاً من قبل اختصاصي الترميم والآثاريين إنما هي أمور استرشادية غير دامغة للدفع بأثرية اللقي والنماذج المكتشفة أو الواردة بالضبطيات ومقار المعاينات والمنافذ الأثرية،ولا تمثل إلا وسائل مساعدة إذا ما كانت هناك شكوك أونقص في الخبرة وغياب الحس الأثري لدي المنوط بهم معاينتها أو فحصها ، لاسيما وأنها لاتعطي إلا نتائج تحتاج إلي تفسير وتحليل من قبلهم ، وإلا ما كانت بعض المتاحف الأوروبية قد أودعت بقاعات عرضها نماذج مزيفة وأخري مزورة في أصولها رغم امتلاكهم الإمكانات والتقنيات اللازمة للتحقق من أصالتها وأثريتها.
ما حدا بوزارة الآثار إلي التفكير والقيام بإنشاء مركز لكشف تزييف وتزوير الآثار، مع الأمنيات بأن يؤسس تأسيساً علمياً يناط به ومنه تحقيق الأهداف التي شيد من أجلها، وخلق جيل من الآثاريين واختصاصي الترميم المهرة لخدمة الشأن الأثري في هذا المضمار وفي كافة مواقعه.
وقدم مدين تحليلا علميا لوسائل ومعايير كشف تزييف الأثار،مشيرا إلي أن تلك المعايير والتقنيات تعتبر مفيدة إذا ما اختلفت مواد الصنع والتشكيل للمزيف والحقيقي، لكن ما الحال حيال النماذج المزيفة التي تطابق نظيرتها الأثرية؟،هنا تبقى العين الخبيرة لاختصاصي الترميم والآثاري هي المنوط بها كشف ملامح ودلالات التزييف والتزوير بشكلٍ جلي يدمغ حجة صاحبها ويدحض آراء المعارضين له،بجانب المهارةٍ وحسٍ الأثري،وهو ما يجنبنا استخدام ادوات ومعدات للفحص والمعاينة،الكثير منها يعد متلفاً لمادة الأثر وهو أمر مرفوض.
واعتماداً على مسألة التشريح والملامح الفنية لمدارس النحت والتصوير المختلفة كأن يقال أن لتماثيل خفرع نظرة للأعلى أو المثالية والواقعية أو لأمور تقتضيها الظروف والعقائد، وغير ذلك من السمات الفنية الفاصلة بين المزيف والحقيق- حسب نظرياتهم- فإنها لا تؤسس إلا للبحث عن ملامح التطابق والتناظر لسمات معينة لفترةٍ زمنيةٍ محددةٍ وعصرٍ معين،لكن هل يعد هذا دليلاً دامغاً على أثرية وأصالة النماذج محل المعاينة والفحص، لا بل هو خطأ بدوره ، لا سيما وأن هناك تقنيات وأدوات حديثة يمكنها محاكاة الأصل ومعالجته بمنتهى الدقة والاحترافية مثل 3D Scan and، وعليه فالعين المجردة المدربة هي الفاصل والدامغ في هذا.
وفي الآونةِ الأخيرةِ دأب المزيفون والمزورون على تقليد ومحاكاة النماذج والأصول الأثرية بموادٍ بعضها مخلق والآخر من خلاصة ومساحيق المواد المستخدمة في تنفيذها ، حيث يلجأ هؤلاء إلى استخدام بعض البوليمرات مثل عديد الإستر Polyester المخلوط بمساحيق الأحجار والملونات، وبإسلوب الصب والقوالب في إنتاج نماذجهم المزيفة بشكل احترافي فريد .
وآخرون إلى استخدام مساحيق ومجروش الصخور والأحجار مع إضافات أخرى كخام الحديد الزهر"برادة الحديدIron filings والملونات، وبإسلوب الصب أيضاً لإنتاج تلك النماذج والمستنسخات ، وخضوع بعضها للمعالجة السطحية أو التقادم المعجل حسب نوعه المطلوب وفق الغرض المحدد للمطابقةِ والمماثلة، وهي حالة يمكن معها فقط الاستعانة ببعض الاختبارات والقياسات ، حيث تعطي في الحالة الأولى رائحة اللدائن عند حرقها ، لكنها وفي مقام آخر لا تتأثر باختبارات الذهب بالماء الملكي Aqua regia "حامض النيتريك+حامض الهيدروكلوريك" أو حامض الكبريتيك H2SO4 إذا ما كانت مذهبة ، ما يضع القائم بدراستها وفحصها في حَيرةٍ من أمره، وتعطي الثانية توزيعاً عشوائياً غير بلوري عند دراسة تبلورها وانفصام بلوراتها بالمجهر المستقطب مثلاً، وهو حال بعض الصخور بركانية الأصل والمنشأ، وعليه فهو اكتنافٌ معقدٌ لا يفك أو يفسر طلاسمه إلا اختصاصي الصيانةِ والترميم الماهر بمساندة من جيولوجي وآثاري خبير .
وإذا ما كان الأمر يتعلق بمقتنيات الذهب ونماذجه كتماثيل الأوشابتي ، الآنية، المصفحات، الخواتم والحلي المختلفة وغيرها، فهل يكفي أن تكون من الذهب لتوصف بأنها أثرية، بالطبع لا، فالمزورون يستخدمون الذهب الخالص محاكاةً لنماذجه الأثرية في صنع وتشكيل وتكفيت أو تصفيح نماذجهم المزيفة تلك، وعليه فإن القائم بفحص ومعاينة مقتنيات الذهب باستخدام عدسة مكبرة علي سبيل المثال لا بد وأن يجد التشققات غير المنتظمة في نماذجه الأصلية ، يقابلها أسطح ملساء ناعمة لا تعتريها تلك التشققات في نماذج المحاكاة المزيفة ، وهنا يبرز دور وخبرة اختصاصي الصيانة والآثاري لحل تلك الإشكالية دون الاعتماد فقط علي تحديد مادة الأثر كما أشير سلفاً.
أما إذا تعلق الأمر بالمواد العضوية من أصل نباتي أو حيواني كالبردي، الجلد، الرق، البارشمنت، الخشب، الورق، النسيج، النماذج المصبرة والمحنطات.....، فاختبار النارأو الحرق للسليلوز والبروتين، الفلورين للعظام والبقايا الآدمية ، قياسات التغير اللوني باستخدام أجهزة قياس اللون Colorimeters أو أجهزة قياس طيفه Spectrophotometers تعد كلها ناجزةً في الفصل بين النماذج الأثرية وتلك المزيفة في حالة اختلاف مادتيهما ، أما إذا تطابقتا في هذا فلا طائل منها ، فالرماد المتخلف عن الحرق واحد،الرائحة واحدة، التغير اللوني متطابق ، والصفات الظاهرية والسطحية واحدة، ما يدعم ملكة كشف المزيف من الحقيقي والخبرة المكتسبة مع الوقت في كشف زيفها أو تزويرها من عدمه، هذا باختصار شديدٍ دونما اسهاب أوتفصيل.
ولكل هذا ونظيره وتتمةً له، فإن المسألة تمثل اكتنافاً معقداً لا يمكن الاعتماد فيه فقط علي ما ورد بكل تلك الأطروحات والأفرودات دليلاً وشاهداً لكشف زيف النماذج المقلدة أو أوجه التزوير وملامحه في النماذج الأثرية دون الاعتداد بالحس الأثري والخبرة والدراية بالجوانب الفنية التي تلحظها العين وتميزها، مع الاستناد إلي فهم طبيعة وكيمياء مواد اللآثار وتفاعلاتها المميزة لها عند تقادمها طبيعياً بالتدريب المتواصل والتطبيق الفاعل لآليات التحقق من أصالة المواد والنماذج المختلفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق