30‏/05‏/2025

الوداع الأخير..تاريخ نقشته عائلة الصوفي زاده علي جدران المساجد وتراكيب القبور..صور

علاء الدين ظاهر 

الوداع الأخير..يبدو هذا وكأنه عنوان أنيق وبراق لرواية كلاسيكية،لكنه عنوان معرض مدهش للخط العربي في مكان ارتبط علي مدار سنوات طويلة بالخط وفنونه مع عائلة من أشهر مثيلاتها في هذا المجال..بيت عائلة الصوفي زاده المجاور تماما لمجموعة الإمام الشافعي بالقاهرة"المسجد والقبة والميضأة"، وهو البيت التاريخي لأحد العائلات الفنية العريقة في مجال الفنون الإسلامية وخاصة الخط العربي.



في منزل الصوفي زاده..هنا وُلدت الحروف وعلت الزخارف، وتحوّلت الجدران إلى صفحاتٍ تنبض بفنون الخط والزخرفة والنحت والتذهيب،رحلة إبداع بدأها قبل سنوات بعيدة الجد خالد صوفي زاده، ومضى على إثره الأحفاد،ولما لا وقد خرجت من هذا البيت 4 أجيال من فناني الخط العربي، ممن سخّروا الحرف لخدمة الجمال، تنقّلوا فيه بين النقوش والمخطوطات، من المساجد إلى المقابر، من الوثيقة إلى التحف الأنيقة.



وعلي قدر وقيمة المكان جاءت قيمة الحدث..معرض مدهش تنوعت فيه المعروضات من مقتنيات العائلة،ومنها لوحات وقطع خطية وأدوات الكتابة والنحت وصور ومستندات وقوالب ومسودات،وكلها شاهدة علي إرث أحد العائلات الفنية العريقة في مجال الفنون الإسلامية في مصر،إرث يرجع إلى القرن التاسع عشر،وقد شارك فنانوها في المشهد الفني وتركوا عددا كبيرا من النقوش الكتابية بين أشرطة وعناوين المساجد ونصوص الإنشاء والتجديد وشواهد وتراكيب القبور.



وعلى مدى قرنين من الزمن وعبر خمسة أجيال متعاقبة توارث أفراد العائلة فنون الخط العربي، والزخرفة والنحت والتذهيب، فبدأ هذا الإرث مع الجد الشيخ خالد الصوفي زاده الذي ورث تلك الفنون عن أسلافه ثم نقلها إلى أبنائه، ليستمر الامتداد الفني حتى اليوم مع أصغر الأحفاد المشتغلين بتلك الفنون وهو الفنان محمد شافعي الصوفي زاده.




حضر افتتاح المعرض عدد من الشخصيات ممن تربطهم صلات مباشرة أو غير مباشرة بالعائلة ومحبي الخط والفنون الاسلامية،وعلي رأس الحضور كان الأمير محمد علي بن الملك السابق أحمد فؤاد الثاني،وذلك تقديرا لعطاء العائلة في خدمة هذا الفن وللأسرة الملكية بشكل خاص،والقنصل التركي بالقاهرة فاتح كاراجا تقديرًا لرأس العائلة الشيخ خالد المولود في أنقرة،وعدد من الأكاديميين المهتمين بالتراث والتاريخ والفنون.



ويَظهر من عنوان المعرض أنه بمثابة الوداع الأخير لبيت العائلة، الذي كان المقر والمستقر ومصدر الأمان لأفرادها، فيه وُلد أربعة أجيال من أفراد العائلة، وفيه نشأوا، تعلّموا وعلّموا، وكان فيه السكن والمحترف،فقد كان المعرض توديعًا للبيت الذي حمل أحلامهم، وشهد المولد والنشأة وحتى الوفاة، لطالما ودّعت أحجار البيت أفراده، وقد آن الأوان أن يودّع الأحفاد تلك الأحجار التي طالما حملت من عرق يد الأجداد، وكانت العكاز الذي تسنّدوا عليه، للأحجار ذاكرة وللأماكن أعمار كأعمار البشر، لكن تلك الأحجار وهذا البيت يختلفان؛ فهو مستقرّ الجد ومنشأ الأب ومرتع الحفيد، فإن فارقنا الجد بالوفاة، والأب لانشغالاته، فقد بقي لنا البيت بتفاصيله وتقاسيمه... ولكن حان الوداع!



الفنان محمد شافعي يعتبر آخر أجيال العائلة ممن ورثوا تاريخها العريق،وقال عن المعرض:لم يخطر ببالنا يومًا أن يُقام معرض لأعمال ومقتنيات عائلتنا العزيزة داخل بيتها التاريخي العريق في القاهرة تحت هذا العنوان الموجِع "الوداع الأخير"،عنوان لمعرضٍ هو أقرب إلى مرثية طويلة، تقام بين جدران بيت الصوفي زاده في القاهرة، ذاك البيت الذي لم يكن سكنًا فحسب، بل موطئ الخطى الأولى لرحلة امتدت قرنين من الزمن.








وتابع:لكن كما قيل قديمًا: لكل بداية نهاية، وإن كانت هذه نهاية ... فهي نهاية فصل من فصول مسيرة طويلة، امتدت لخمسة أجيال خطّت فيها أنامل العائلة آثارها في الفنون الإسلامية، بداية من الجد خالد صوفي زاده إلى أصغر الأحفاد العاملين بتلك الفنون محمد شافعي الصوفي زاده.

هنا وُلدت الحروف، وعلت الزخارف، وتحوّلت الجدران إلى صفحاتٍ تنبض بفنون الخط والزخرفة والنحت والتذهيب، مَشَقَه الجد خالد صوفي زاده، ومضى على إثره الأحفاد كأنهم سطرٌ بعد سطر في مرقع لم يكتمل بعد!



هذا المعرض ليس مجرد وقفة تأمل في إنجازات فنية، بل هو عبورٌ داخل ذاكرة بيتٍ تنفّس الفن، نُقل فيه الخط من المحراب إلى اللوحة، من الوثيقة إلى الوتين، من الحرف إلى الروح ... تُعرض فيه أعمالهم، مقتنياتهم، أدواتهم، وثائقهم، صورهم، وشيء من أرواحهم التي ظلت معلّقة في زوايا هذا البيت ... كأنها تقول: "كنّا هنا… وها نحن نغيب".



فقد عاشوا في رحاب القرآن؛ جوّدوا آياته فأتقنوها، وخطّوا كلماته فنمّقوها، بذلوا في ذلك وُسعهم، ولم يدّخروا جهدًا، وزهدوا في ترف العيش، فتمسّكوا بجوار الإمام وبذلوا لأجله،وكانت سَلوتهم الوحيدة أنهم عاشوا في رحاب الله، ومجاورة سيدنا الإمام الشافعي. أرض الإمام المباركة – كما كانوا يسمّونها – التي وطئها الصحابة والتابعون، عند سفح جبل المقطم، حيث خلوات المتصوفة، ومقابر الصالحين، ومساجد الأولياء والعلماء.



فبين مسجد الإمام الشافعي، والإمام الليث، ومسجد الصحابي المجاهد عقبة بن عامر، وقبر الإمام ورش، والإمام ابن حجر العسقلاني... هناك كانت النشأة، وهناك كان الصبا.

ومرت السنون ولم تزِدهم إلا تمسّكًا بجوار الإمام، فيه السكن والسكينة، والمعاش والمحترف؛ فيه أبدعوا أعمالهم ونمّقوها، وهنا استقبلوا زبائنهم ومحبّيهم، وحتى الممات... فيه واروا موتاهم،ولم يخرج من حدود الإمام لا حيّ ولا ميت من أجيال العائلة الخمسة، حتى وإن سكن البعض خارجه، عاد دومًا للّقاء في بيت العائلة العامر.







وما بين سطرٍ وسطر، كانت الحياة تمضي كمدادٍ لا ينضب، يمر من يدٍ إلى يد، ومن عينٍ إلى قلب، لم تكن أدواتهم مجرد وسائط، بل امتدادًا للروح… أقلامهم أناملٌ ثانية، ومحابرهم موضع سرٍّ قديم،وفي هذا البيت، لم تُرسم الزخرفة على الجدران فقط، بل نُقشت في الذاكرة، وسُكنت في الملامح. كل زاوية فيه تحمل من صمتهم ما يكفي ليبوح، ومن ظلّهم ما يكفي ليدلّ عليهم،كأن البيت ذاته صار شاهدًا... لا على الحضور فقط، بل على الحنين إلى الماضي،فخالد صوفي زاده لم يزرع فنًّا فحسب، بل ترك شجرة نسبٍ من الحروف؛ أوراقها أجيال، وثمرها مخطوطات، ومحاريب، ونقوش، كل واحدة منها تقول:"نحن أبناء الحرف ... كنا هنا وبقي الأثر."

وإذا كان هذا الوداع نهاية، فهو نهاية فصل من فصول مسيرة طويلة،نغلق الباب لا على نهاية، بل على بداية جديدة في الذاكرة.



وقد شغل أفراد العائلة مواقع مؤثرة في مؤسسات كبرى مثل: دار الكتب المصرية، وزارة الداخلية، المطابع الأميرية، دار الشعب، الهيئة العربية للتصنيع، جامعة حلوان، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كما ساهموا عبر مكاتبهم وشركاتهم الخاصة في تقديم أعمالهم داخل مصر وخارجها.

"الجيل الأول" الجد الأكبر الشيخ خالد صوفي زاده وُلد في أنقرة عام 1872، وتعلم فن الخط على والده، ثم قدم إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر، حيث شغل منصب إمام وخطيب مسجد محمد علي باشا بالقاهرة، وعمل أيضًا مدرسًا للعلوم الشرعية.



وتزوج خالد في القاهرة عام 1895، ورزق بأبنه الوحيد أحمد أفندي خالد (1900) "الجيل الثاني" الذي تخصص في الخط والنحت والتذهيب، وكتب نقوشًا لمساجد عديدة منها: مسجد أحمد حمزة باشا، ومسجد نازلي هانم حليم، وأنجز شواهد وتراكيب قبور شخصيات بارزة مثل: سعيد باشا ذو الفقار، وصبري باشا أبو علم، ومصطفى باشا ثابت ونازلي هانم حليم، وقد أنجب أحمد أفندي ثمانية أبناء، ستة منهم ذكور أخذوا عنه جميعا مختلف الفنون، واحترف ثلاثة منهم فنون الخط والنحت والتذهيب: وهم: حسن، رسمي، ويوسف.


من الجيل الثالث: حسن خالد الذي وُلد عام 1923، التحق بمدرسة تحسين الخطوط الملكية عام 1937، وتخرّج فيها عام 1941 ضمن أوائل دفعته، لذا كرّمه الملك فاروق حينها ، وهو الذي كتب للملك شاهد قبره في مطلع السبعينيات.









وعمل حسن خطاطًا بدار الكتب المصرية منذ عام 1944، وتدرّج ليصبح مراقبًا عامًا للدار قبيل تقاعده عام 1983، برز حسن خالد في النقوش الكتابية فكتب الأشرطة الكتابية ونصوص الإنشاء والتجديد لمساجد منها: الإمام الحسين، والليث بن سعد، والسيدة عائشة، ومحمود باشا الفلكي ومحمد الكحلاوي بالإضافة إلى شواهد وتراكيب قبور شخصيات بارزة منها: الرئيس جمال عبد الناصر، أم كلثوم، فريد الأطرش، عبد الوهاب، طه حسين، وأحمد تيمور باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمد محمود باشا.



أما شقيقه رسمي خالد ولد عام 1931، فقد التحق بمدرسة تحسين الخطوط عام 1947، وتخرّج في 1951. عمل بجريدة الأهرام، ثم بوزارة الداخلية ومن أشهر أعماله التي تخصص فيها كتب البطاقات الشخصية لرؤساء الجمهورية " عبد الناصر، والسادات، ومبارك" والعديد من الوزراء ومشاهير الدولة المصرية، كما عمل خطاطا في دار الشعب، وكتب مئات أغلفة الكتب، ثم أُعير إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث كتب للجامعة وجريدتها وساهم في تنظيم ورش ومنافسات للخط العربي بها.









ومن الجيل الرابع، الفنان مصطفى بن حسن خالد تخرج في مدرسة تحسين الخطوط عام 1981، عمل مصمما وخطاطا في شركة أرابيسكو بالرياض، ثم بالمكتب العربي الهندسي بالقاهرة وبرع في تصميم الشعارات التجارية، وابن عمته مجدي عبد الكافي حفيد أحمد خالد، جمع بين فن الخط والرسم فعمل في تصميم أفيشات الأفلام والإعلانات في مصر والمملكة العربية السعودية، وأنشأ لاحقًا شركته الخاصة في القاهرة.



أما الجيل الخامس، فيمثّله الفنان محمد بن شافعي بن حسن خالد، الذي تلقّى تعليمه على يد عمه مصطفى خالد، ونال الإجازة من جده "عم والده" يوسف خالد، وتخرج في مدرسة تحسين الخطوط عام 2020 فاز محمد بثلاث جوائز في مجال الخط التقليدي، واهتم بتوظيف الخط العربي في الأعمال التقليدية وفي تصميم الحلي والشعارات والنقوش الكتابية، كما شرع في ماجستير في التراث والمخطوطات، وشارك بتقديم محاضرات وورش في عدة مؤسسات مثل كلية الفنون التطبيقية، المعهد الفرنسي، دار الأوبرا، بيت الرزاز، وبيت السناري، وبعض المؤسسات والمعاهد الخاصة، كما نفّذ نقوشًا لثلاثة مساجد بالقاهرة، وشارك في أكثر من 20 معرضًا فنيًا، وعدد من الملتقيات والأحداث الفنية.






























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق