علاء الدين ظاهر
أشعر بفخر كبير أنني كنت جزءًا من تلك الرحلة،وأن بصمتي موجودة في كل زاوية من زواياه..هكذا عبر عالم الآثار المصرية د.حسين عبد البصير عن سعادته بإنتهاء مشروع المتحف المصري الكبير وإفتتاحه،حيث تولي عبد البصير مسئولية المشرف العام علي المشروع لمدة عامين ما بين"2011-2013".
ووصف المتحف المتحف بأنه ليس مجرد مبنى يضم آثارًا،بل إنه دعوة إلى العالم ليأتي ويرى كيف استطاعت مصر أن تحافظ على تراثها وأن تقدّمه بروح العصر. إنه رسالة تقول نحن هنا منذ آلاف السنين، وسوف نظل نضيء دروب الحضارة للإنسانية جمعاء.
تجربة استثنائية
وتابع:ساهمت في متابعة مراحل المشروع العلمية والأثرية والإشراف على جانب من أعماله البحثية، مما منحني فهمًا عميقًا لمدى تأثير هذا المشروع على صورة مصر الحضارية ومستقبل السياحة الثقافية،وقد كانت مشاركتي في مشروع المتحف تجربة استثنائية بكل المقاييس. لم تكن مجرد وظيفة أو مهمة إدارية؛ كانت رسالة وطنية، وعملًا من أجل المستقبل،وعلى الرغم من كل التحديات السياسية والاقتصادية التي كانت تعصف بالبلاد في تلك السنوات، كان لدينا إيمان راسخ بأننا نعمل من أجل مصر، وأن هذا المشروع سوف يغيّر وجه السياحة والثقافة في العالم.
مرحلة دقيقة
وقال:إذا أردنا أن نلخّص طموح مصر في العصر الحديث في مشروع واحد يجمع بين عبقرية المكان، وعمق التاريخ، ورؤية المستقبل، فلن نجد أفضل من المتحف المصري الكبير. هذا الصرح العملاق الذي يُقام عند أقدام الأهرامات ليس مجرد متحف؛ إنه نافذة مصر على العالم، وبوابة الحضارة إلى القرن الحادي والعشرين.
لقد تشرفتُ بالمشاركة في هذا المشروع الوطني العملاق في مرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخه،وهي مرحلة لم تخلُ من التحديات، لكنها كانت مليئة بالإنجازات الكبرى والقرارات الجوهرية. في هذه السطور، أقدّم شهادة شخصية حول مشاركتي في هذا المشروع، وأسجّل بعضًا من التفاصيل التي ربما لا يعرفها الكثيرون، من كواليس التخطيط والتمويل، إلى نقل الآثار والاختيارات الكبرى، وصولًا إلى لحظة بدء البناء الحقيقي على أرض المشروع.
متحف عالمي
ومنذ أن أعلن عن فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير، كان الهدف واضحًا: إنشاء متحف عالمي يليق بعظمة حضارة مصر القديمة ويواكب أحدث معايير العرض المتحفي في العالم. كان المتحف يطمح إلى أن يكون ليس فقط مكانًا لعرض الآثار، بل مركزًا علميًا وثقافيًا وتعليميًا يربط الماضي بالحاضر، ويتيح للأجيال الجديدة فرصة للتفاعل الحي مع تراثهم.
تصوّر أن تقف في بهو عظيم فسيح، يطل مباشرة على أهرامات الجيزة، ويستقبلك فيه تمثال الملك رمسيس الثاني بكامل جلاله، كأنك عدت إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ثم تنتقل لتجول بين أكثر من مئة ألف قطعة أثرية تمثل كافة عصور مصر القديمة، بدءًا من عصور ما قبل التاريخ، وصولًا إلى العصر اليوناني الروماني. ذلك كان الحلم الذي عملنا جميعًا من أجله.
خطط تمويلية
وحين انضممت إلى المشروع في 2011، كان أحد أهم الملفات العاجلة هو ملف التمويل. مشروع بهذا الحجم، يُبنى على مساحة 490 ألف متر مربع ويستوعب ما يقرب من 100 ألف قطعة أثرية، يحتاج إلى استثمارات ضخمة وخطط تمويلية دقيقة. كان هناك اتفاق مع الحكومة اليابانية للحصول على قرض ميسر طويل الأجل، وقد كان لليابانيين دور محوري في دعم المشروع، ليس فقط ماليًا، بل أيضًا تقنيًا من خلال خبراتهم في مجالات الترميم والعرض المتحفي.
وكان التنسيق بين الجهات المصرية والدولية مهمة شاقة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي عاشتها مصر في تلك السنوات. ومع ذلك، نجحنا في ضمان استمرارية التمويل وتدفق الموارد اللازمة، ما سمح للمشروع أن يتجاوز واحدة من أخطر مراحله،ومن أعظم اللحظات التي عشتها في تلك المرحلة إشرافي على نقل مجموعة توت عنخ آمون إلى المتحف الجديد. تخيّل أنك تحمل بيديك إرث الملك الطفل الذي هز العالم منذ اكتشاف مقبرته عام 1922. كان كل صندوق يُنقل أشبه بقطعة من التاريخ الحي.
نقل ناجح
وخضع النقل لأعلى المعايير العلمية، من حيث التغليف، ومراقبة درجات الحرارة والرطوبة، وتأمين الطرق. كان شعورنا أثناء متابعة تلك العمليات مزيجًا من الرهبة والمسؤولية. كنّا ندرك أننا لا ننقل مجرد ذهب أو آثار، بل ننقل ذاكرة أمة ورسالة إلى المستقبل.
ولا يمكن أن أتحدث عن مشاركتي في المشروع دون أن أستعيد ذكرى تمثال رمسيس الثاني. كان هذا التمثال قد نُقل بالفعل إلى أرض المشروع عام 2006 في حدث تاريخي تابعه العالم، لكنه ظل بحاجة إلى ترميم وصيانة دقيقة قبل أن يصبح جاهزًا ليكون "قلب المتحف"،وأشرفتُ على مراحل متابعة الترميم، ورأيت كيف يعمل فريق المرممين بيدين حنونتين على إزالة آثار التلوث والشقوق، حتى استعاد التمثال بريقه وهيبته. يومها، شعرتُ أن رمسيس يبتسم لنا شاكرًا، وكأنه يبارك جهودنا.
ولم يعد مجرد تمثال، بل صار "سفير الحضارة المصرية" الذي سوف يستقبل ملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم.
اختيار شركة العرض المتحفي: فلسفة جديدة،فالعرض المتحفي ليس مجرد ترتيب قطع أثرية في قاعات، بل هو رواية تُحكى بلغة بصرية وعلمية في الوقت ذاته. شاركتُ في اللجنة المسؤولة عن اختيار الشركة العالمية التي ستتولى إعداد سيناريو العرض المتحفي.
وكنا نبحث عن رؤية تمزج بين الإبهار البصري والتعليم، وتقدّم القطع في سياقها التاريخي الصحيح. أردنا أن يشعر الزائر أنه يقوم برحلة عبر الزمن، وأن تتكامل التكنولوجيا الحديثة (الإضاءة، والوسائط المتعددة، والواقع الافتراضي) مع جلال القطعة الأثرية. اختيار الشركة المناسبة كان خطوة مفصلية ضمنت أن يكون المتحف ليس مجرد مخزن للآثار، بل تجربة ثقافية متكاملة.
مركب خوفو
وأحد أهم القرارات التي اتخذناها في تلك المرحلة كان إلغاء خطة نقل مركب الشمس الأولى (مركب خوفو المكتشفة عام 1954) إلى داخل المتحف. بعد دراسة متأنية، رأينا أن نقلها قد يعرّضها لمخاطر، فاقترحنا إنشاء متحف خاص بها بجوار المتحف المصري الكبير. هذا القرار حظي بترحيب واسع من الخبراء، وكان دليلًا على أن الهدف لم يكن مجرد جمع أكبر قدر من الآثار في مكان واحد، بل الحفاظ على كل قطعة في أفضل بيئة ممكنة.
وخلال فترة إشرافي، تابعنا أيضًا مشروع مركب خوفو الثانية، الذي كان ثمرة تعاون مصري-ياباني مثمر. عملية استخراج المركب كانت مغامرة علمية حقيقية: حفر دقيق، توثيق شامل، رفع الألواح الخشبية الهشة باستخدام أحدث التقنيات، ثم ترميمها وتجميعها قطعة قطعة. كان ذلك المشروع بمثابة معمل حي لتدريب جيل جديد من المرممين المصريين، ما ضمِن استدامة المعرفة والخبرة المحلية.
ومن أبرز الإنجازات الإدارية التي شهدتها تلك الفترة توقيع المناقصة النهائية للمتحف، والتي شملت الجوانب الفنية والإنشائية والتقنية،ثم جاء يوم 5 مارس 2012، الذي أعتبره يومًا تاريخيًا بحق، حيث تم تدشين بدء البناء الفعلي للمتحف في احتفال رسمي كبير حضره وزير الآثار حينها د. محمد إبراهيم، ونائب مدير عام اليونسكو، والسفير الياباني، وكبار المسؤولين. كان ذلك اليوم بمثابة إعلان رسمي بأن الحلم أصبح حقيقة تتجسد على الأرض.
مشروع حضاري عالمي.
منارة الحضارة
إن المتحف المصري الكبير لا يُعد مجرد متحف بالمعنى التقليدي، بل هو مشروع حضاري عالمي سوف يعيد رسم خريطة السياحة الثقافية في مصر والمنطقة. منذ لحظة التفكير في إنشائه، كان الهدف أن يصبح المتحف بوابة مصر الحديثة إلى العالم، ومنارةً تُعيد تقديم الحضارة المصرية القديمة للأجيال الجديدة بطريقة علمية مبتكرة، وفي الوقت نفسه وسيلة جذب سياحي متفردة تعيد إحياء شغف العالم بمصر القديمة.
باعتباره أكبر متحف مخصص لحضارة واحدة في العالم، سيضم المتحف أكثر من مائة ألف قطعة أثرية تغطي جميع مراحل التاريخ المصري القديم، من عصور ما قبل التاريخ وإلى العصر اليوناني الروماني. ومن أبرز ما سوف يعرضه المتحف ولأول مرة كامل مقتنيات الملك توت عنخ آمون التي سوف تُعرض في قاعات مصممة وفق أحدث الأساليب المتحفية العالمية، مما يجعل المتحف وجهة لا غنى عنها لكل عاشق للآثار حول العالم.
موقع استراتيجي
ومن الناحية الاقتصادية، فإن افتتاح المتحف المصري الكبير سوف يساهم في زيادة أعداد السياح بشكل كبير، خاصة مع موقعه الاستراتيجي بجوار أهرامات الجيزة. سوف يصبح بإمكان السائح أن يرى الأهرامات، و"أبو الهول"، ويزور المتحف في اليوم نفسه، ما يشكل تجربة سياحية متكاملة لا مثيل لها. سوف يضاعف هذا التكامل مدة إقامة السائح في مصر ويزيد من إنفاقه، ما ينعكس مباشرة على الدخل القومي وفرص العمل لقطاع السياحة.
كما سوف يُسهم المتحف في تعزيز مكانة مصر على خريطة السياحة العالمية؛ إذ سيُصبح مركزًا للمعارض الدولية والفعاليات الثقافية والمؤتمرات العلمية، مما يعزز من دور مصر كدولة رائدة في حماية التراث الإنساني. سوف يكون المتحف أيضًا منصة للتعليم والبحث العلمي؛ إذ يتضمن مركزًا للترميم يُعد من أكبر مراكز الترميم في العالم، مما سوف يجعل منه مقصدًا للباحثين والخبراء من مختلف الدول.








ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق