31‏/10‏/2025

حكاية الملابس في مصر القديمة..سر الأناقة الخالدة كتان خفيف وملائم للمناخ الحار والجاف

علاء الدين ظاهر 

لم تكن الملابس في مصر القديمة مجرد وسيلة لتغطية الجسد، بل كانت انعكاسًا صريحًا لروح حضارةٍ مزجت بين الإبداع الفني والبراعة الحرفية والرمزية العميقة التي جعلت الأزياء جزءًا لا يتجزأ من الهوية المصرية..كيف كان ذلك؟..الإجابة كانت لدي الدكتورة هبة حسن عامر دكتوراة في التاريخ اليوناني والروماني ومحاضر زائر بكلية الآثار واللغات جامعة مطروح



فن دقيق 


قالت الدكتورة هبة حسن:فمنذ فجر التاريخ، أدرك المصريون القدماء قيمة المظهر الخارجي، فجعلوا من صناعة الملابس فنًا دقيقًا يرتبط بالمكانة الاجتماعية والسلطة الدينية ويعكس التطورات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها البلاد عبر العصور,حيث إعتمد المصريون بشكل رئيسي على الكتان في صناعة ملابسهم، وهو اختيار لم يكن عشوائيًا؛ فالكتان خفيف وملائم للمناخ الحار والجاف، كما أنه قابل للصبغ والزخرفة بدقة متناهية. 



وكان يُزرع بكثافة في دلتا النيل، ويُحصد قبل تفتح أزهاره لضمان نعومة أليافه، ثم يخضع لعملية معالجة معقدة تشمل النقع والتمريش قبل تحويله إلى خيوط رفيعة تُنسج على أنوال أفقية متطورة. وقد أثبتت المكتشفات الأثرية أن المصريين عرفوا منذ وقت مبكر تقنيات متقدمة في الغزل والنسيج، وصلت إلى حد إنتاج أقمشة بالغة الرقة والجودة، بعضها لا يزال يحتفظ بنعومته حتى اليوم في المتاحف العالمية.



فستان طرخان


ومن أبرز الأدلة على براعتهم في صناعة الملابس اكتشاف فستان طرخان في مقبرة أثرية بمنطقة طرخان جنوب القاهرة، والذي يعود إلى نحو عام 3482 ق.م، ويُعد أقدم نموذج معروف للملابس المفصلة في التاريخ. يُعرض هذا الفستان حاليًا في متحف بيتري للآثار المصرية التابع لـ جامعة كوليدج لندن (UCL)، حيث يُعد من أبرز مقتنياته وأكثرها شهرة عالميًا. أظهر الفستان دقة في القص والتفصيل تفوق التصورات، ما يعكس تطور مهارات الخياطة والتنميق في عصرٍ لم يكن قد عرف بعد أي أدوات صناعية معقدة. ولعل هذا الاكتشاف يكشف أن المصريين لم يكتفوا بإنتاج أقمشة عالية الجودة، بل برعوا أيضًا في تصميم أزياء متكاملة تراعي راحة الجسد وجمال المظهر في آنٍ واحد.



شنديت للرجال 


وشهدت الملابس في مصر القديمة تطورًا واضحًا عبر العصور المختلفة، إذ تميزت في الدولة القديمة بالبساطة والعملية؛ فكان الرجال يرتدون "الشنديت"، وهو مئزر قصير يلتف حول الخصر، بينما ارتدت النساء فساتين أنبوبية ضيقة بلا أكمام غالبًا، مع ألوان بيضاء ترمز إلى النقاء والطهارة. ومع تطور المجتمع المصري وازدهار الاقتصاد في الدولة الوسطى، بدأت الأزياء تأخذ أبعادًا أكثر تنوعًا؛ إذ ظهرت الفساتين المزخرفة بحمالات رفيعة وأكمام قصيرة للنساء، بينما ارتدى الرجال الكيلت الطويلة التي تعكس الثراء والمكانة الرفيعة.



أزياء فاخرة 


أما في الدولة الحديثة، فقد بلغت صناعة الملابس ذروة ازدهارها؛ إذ انتشرت الأقمشة الشفافة متعددة الطبقات، وظهرت التصاميم المعقدة المعتمدة على الطيات الدقيقة والتطريز الذهبي، إلى جانب استخدام ألوان زاهية مثل الأزرق والأخضر القرمزي. كان هذا العصر أيضًا مرحلة التعبير الأوضح عن التمايز الطبقي، حيث أصبح اللباس معيارًا يعكس مكانة الفرد في المجتمع. الملوك والنخبة ارتدوا أزياء فاخرة من أرقى أنواع الكتان، مزينة بالذهب والأحجار الكريمة، في حين تميزت ملابس عامة الشعب بالبساطة والعملية، مراعاةً لظروف العمل والبيئة اليومية.



أردية بيضاء 


ولم تكن الملابس في مصر القديمة مجرد انعكاس للذوق الشخصي أو الطبقة الاجتماعية، بل ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمعتقدات الدينية والرمزية الجنائزية. فقد ارتدى الكهنة أردية بيضاء من أنقى أنواع الكتان خلال الطقوس المقدسة، إذ عُد اللون الأبيض رمزًا للطهارة والنقاء الروحي. كما اشتهروا باستخدام جلود النمور في الطقوس الجنائزية كرمز للحماية والسيطرة على قوى العالم الآخر. ومن الأمثلة المميزة أيضًا الكحت (Khat)، وهو غطاء رأس بسيط من الكتان ارتداه الملوك والعمال على حد سواء، وظهر في مشاهد توت عنخ آمون، ليعكس أبعادًا دينية واجتماعية في آنٍ واحد.



قلادات عريضة 


ولم تقتصر أناقة المصريين القدماء على الأقمشة وحدها؛ فقد أولوا اهتمامًا بالغًا بالزينة والإكسسوارات التي أكملت منظومة الجمال. اشتهرت القلادات العريضة المعروفة باسم الأوشِخ (Usekh)، والتي صُنعت من الذهب والأحجار الكريمة لتزيين أعناق الملوك والطبقات الراقية. كما عُرفت الأساور والخواتم وخلاخيل الأرجل بين النساء والرجال على حد سواء. وظهرت الباروكات المصنوعة من شعر طبيعي أو نبات الكتان، والتي كانت علامة على المكانة الاجتماعية، فيما شاع استخدام مستحضرات التجميل مثل الكحل وأحمر الشفاه ومساحيق الزينة المستخلصة من معادن طبيعية ونباتات عطرية، في تعبير واضح عن اهتمام المصريين بالمظهر الخارجي كجزء من هويتهم الحضارية.



غطاء الجسد 


ومع دخول مصر في العصرين البطلمي والروماني، شهدت الأزياء المصرية تحولات ملحوظة بفعل التفاعل الثقافي مع اليونان وروما. ظهرت أنماط جديدة مثل التونيك والأوشحة المزخرفة، وتم إدخال صبغات نادرة كالأرجواني القادم من صور الفينيقية، بينما احتفظت الملابس المصرية بجوهرها التقليدي في استخدام الكتان والتصاميم المميزة، مما خلق مزيجًا فريدًا بين الطابع المصري الأصيل والتأثيرات الهلنستية والرومانية الراقية.



ومن خلال دراسة الملابس المصرية القديمة، يمكننا فهم الكثير عن البنية الاجتماعية والاقتصادية والمعتقدات الدينية والتطور الفني لهذه الحضارة العريقة. لقد كان اللباس أكثر من مجرد غطاء للجسد؛ كان لغة بصرية دقيقة تعكس الهوية والمكانة والعقيدة، وتحكي قصة مصر القديمة عبر الألوان والخامات والزخارف. ومن فستان طرخان الذي يوثق أولى محاولات التفصيل، إلى القلادات الملكية المرصعة بالذهب، والملابس الشفافة المطوية في الدولة الحديثة، وصولًا إلى دمج الطرازين المصري واليوناني في العصر البطلمي، يظل اللباس المصري شاهدًا خالدًا على براعة المصريين في الجمع بين الجمال والوظيفة والرمزية، في مزيجٍ جعل حضارتهم متفردة في تاريخ الإنسانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق