علاء الدين ظاهر
شهدت مصر القديمة أرقى أنواع الحضارات في العالم ولا تزال الآثار التي تتكشف لنا تزيد من قناعتنا يوما بعد يوم بتلك الحضارة المتفردة في شتى مجالات الحياة من عمارة وفنون وإدارة،وكذلك المجالات التشريعية والقضائية على وجه الخصوص،ولذلك فإن القانون المصرى الحديث ليس مقطوع الصلة بسلفه القديم،بل إنه يبدو في أحيان كثيرة أن القانون الحالي ثمرة ناضجة لبذور أو جذور عريقة راسخة في أعماق التاريخ.
ما سبق كان موضوعا لرسالة ماجستير مهمة ومتميزة للباحثة منال محمود محمد محمود، بعنوان"الجريمة والعقوبة في مصر القديمة"،حيث تتضمن دراسة هامة عن القانون والعقاب في مصر القديمة،حيث أن مصر القديمة اتبعت لأول مرة فى التاريخ أول نظام سیاسی مستقر تحت إشراف حكومة مركزية واحدة منذ حوالى ٣٠٠٠ عام، واتخذت من "منف" عاصمة لها.
وتعليقا علي ذلك سألنا د.زاهي حواس عالم الآثار الكبير ووزير الآثار الأسبق،وقال:لدينا أدلة كثيرة علي محاكمات عقدت بمصر القديمة، خاصة التي كانت تحكم في قضية الخيانة والمؤامرات، فمن أمثله تلك القضايا ما ذكره لنا "وني" أحد كبار رجال الدولة أيام الأسرة السادسة فيما أورد من سيرته الذاتية بمقبرته بأبيدوس، وثمة مؤامرة أخرى على رمسيس الثالث من نسائه ذكرت في بردية تورين،ولم يكن لمثل تلك الجرائم عقوبة سوى الموت بغض النظر عن الوضع الاجتماعي للجاني.
وتعتبر محاكمات دير المدينة من أشهر المحاكمات التي تحكى لنا طبيعة المعاملات بين تلك الفئة من الشعب، فيوجد بتلك الوثائق التي تعود إلى دير المدينة العديد من القضايا التي كانت تستوجب عقوبة على المذنب. وقد كان الملك هو الشخص الوحيد القادر على إعطاء التعليمات للوزير نحو ضرورة أن يحكم بالماعت، ومن أمثله ذلك تلك التوصيات التي أعطاها الملك تحتمس الثالث" لوزيره رخمي رع".
رسالة الباحثة التي أشرنا لها سابقا تضمنت دراسة هامة عن القانون، والتشريعات التي سنها المصرى القديم، بل وإجراءات التقاضي وأعضاء المحكمة، ومن ثم العقوبات التي كانت تفرض على المذنب من عقوبات جسدية مثل الإعدام، وعقوبات الضرب والجلد، والعقوبات المقيدة للحريات مثل السجن والنفي بل وأيضاً أسماء العقوبات ومفهومها في اللغة المصرية القديمة،كما بينت الدراسة الوجود المؤكد للقانون في مصر القديمة من خلال إشارات تاريخية عديدة،إذ كان يقوم على تنفيذ هذا القانون هيئات قضائية مركزية ومحلية تفرقت في أنحاء البلاد،ويرأسها الوزير الذي كان يحضر جلسات المحكمة المركزية.
رعاية الأطفال وكبار السن
لم تكن الحضارة المصرية العظيمة التي بزغت على ضفاف النيل وليدة سلطة حاكمة قوية فحسب، بل نتاج شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية التي تطورت على مدى آلاف السنين،فقبل أن يُرفع صولجان الملك نارمر معلناً توحيد القطرين، كانت بذور التكافل المجتمعي والعدالة الاجتماعية قد زُرعت ونمت في تربة المجتمع المصري، مُشكلةً الضمير الجمعي الذي قامت عليه الدولة،وهو ما كان محور حديثنا مع الدكتورة دعاء سيد باحثة متخصصة فى آثار ما قبل التاريخ بوزارة السياحة والآثار.
قالت لنا:في العصور الحجرية القديمة، كانت حياة الإنسان البدائى على الأرض المصرية قائمة على الصيد وجمع الثمار في جماعات صغيرة ومترابطة. هنا، كان التكافل ضرورة للبقاء لا خيارًا، لمواجهة المصير المشترك. لقد كانت مطاردة الحيوانات سواء الكبيرة أوالصغيرة تتطلب تعاونًا وتنسيقًا بين أفراد المجموعة، وكان النجاح يعني طعامًا وكساءاً للجميع. كما لم يكن لمفهوم الملكية الفردية وجود يُذكرحيث كان لابد من تقاسم الموارد مما يتم جمعه من ثمار أو صيده من طرائد ليُقتسم بين أفراد الجماعة لضمان استمرارية الجميع.
من ناحية اخرى فقد مارست تلك الجماعات الرعاية الجماعية،حيث كانت رعاية الأطفال وكبار السن مسئولية مشتركة، فهُم ذاكرة الجماعة ومستقبلها. بالإضافة للإهتمام بدفن الموتى ووضع محتويات بسيطة معهم ليأخذوها إلى عالمهم الآخر . أما العدالة في هذه المجتمعات فكانت فطرية وبسيطة، تستند إلى العرف والتقاليد. لم تكن هناك قوانين مكتوبة، بل كانت الأعراف هي التي تحكم العلاقات وتفض النزاعات، وغالبًا ما كان حكماء القبيلة أو كبارها هم من يقومون بدور الوسطاء لضمان عدم تفكك الجماعة.
ومع معرفة الزراعة في العصر الحجري الحديث، تغير وجه الحياة على الأرض المصرية. لقد أدى الاستقرار في قرى زراعية دائمة إلى ظهور أشكال جديدة وأكثر تعقيدًا من التكافل وهو تكافل الاستقرار. لقد تطلبت هذه المرحلة إقامة مشاريع مشتركة حيث كان شق قنوات الري الصغيرة وحماية الأراضي من الفيضان يتطلب جهدًا جماعيًا منظمًا لا يمكن لفرد واحد أن يقوم به، كما كان هناك تنظيماً لمكان الأكواخ والمساكن وتوزيعها ، بالإضافة لعمل صوامع الغلال الجماعية(المطامير)، والتى كشفت عنها أعمال الحفائر في مواقع مثل "مرمدة بني سلامة" و"الفيوم"، وإختيار أماكن مركزية آمنة لها بالقرية. هذا المخزون لم يكن فقط للاستهلاك الفردي، بل كان بمثابة تأمين جماعي ضد مواسم الجفاف، مما يجسد أسمى صور التكافل المجتمعي، وهو ما رسخ مبدأ العمل المشترك من أجل المصلحة العامة.
ولقد بدأت تظهر، في هذه القرى، بوادر العدالة الاجتماعية بشكل أكثر وضوحًا مع ظهور الملكية المحدودة للأرض وإستئناس وتربية الحيوانات، فقد نشأت الحاجة إلى قواعد لتنظيم العلاقات بين الجيران وفض النزاعات حول الممتلكات. هنا برز دور زعيم القرية أو الكاهن، الذي لم تكن سلطته قائمة على القوة فقط، بل على قدرته على تحقيق العدل بين الناس والحفاظ على السلم المجتمعى. كان يُنظر إلى حكمه العادل على أنه ضمانة لاستمرار رضا المعبودات وبالتالي استمرار الخير والرخاء.
ثم في فترة عصر ما قبل الأسرات وهى الفترة التي سبقت التوحيد مباشرة، نمت القرى لتصبح مدنًا ومراكز قوى إقليمية (مثل نقادة وهيراكونبوليس). ومع زيادة التعقيد الاجتماعي وظهور طبقة النخبة الحاكمة، تطورت مفاهيم التكافل والعدالة لتأخذ شكلاً مؤسسيًا. لقد أصبح الحاكم أو الزعيم هو المسؤول عن تنظيم الموارد وتوزيعها، فهو من يشرف على المشاريع الكبرى، ويدير التجارة الخارجية، ويخزن الفائض من الحبوب ليتم توزيعه في أوقات الشدة. أصبح التكافل هنا منظماً وأصبح مسؤولية "الدولة" الناشئة. كما وُضعت القوانين، و رغم أنها لم تكن مدونة، إلا أن الأدلة تشير إلى وجود مجموعة من القوانين العرفية الصارمة التي تحكم كل شيء من التجارة إلى العقوبات الجنائية. كان الحاكم هو المسؤول الأول عن تطبيق هذا القانون، وأصبحت قدرته على فرض النظام وتحقيق العدل بين المتنازعين مصدرًا رئيسيًا لشرعيته.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق